حين تخلت عنا السماء

حين تخلت عنا السماء

10 يناير 2019
+ الخط -
(1)
في الديانات السماوية كلها نصوصٌ تتحدث عن مواجهة آخر الزمان، بين "الحق" و"الباطل" ستجري على "الأرض المقدسة"، نسميها فلسطين، ويسمّونها أرض إسرائيل أو "أرض الميعاد". الفرق بين المسلمين وغيرهم أنهم لم يجلسوا انتظارا لظهور "أبطال" خارقين مسلحين بالقدرة الإلهية الجبارة، بل عملوا على إيجاد "أبطال" بديلين، أرضيين، (قوة عسكرية، غواصات، طائرات، تكنولوجيا، برامج وتطبيقات سايبر خارقة.. إلخ) فيما غاص المسلمون، في الغيبيات، مؤمنين بأن الصبر مفتاح الفرج بمعناه الأصم القاصر، وفي فهمٍ مكسّر ومشوّه لمعنى الصبر، باعتباره الجلوس وانتظار "المُخلص". وهكذا خسرنا المعركة قبل أن تبدأ، وتهنا حقبةً تفوق تيه بني إسرائيل بأضعاف مضاعفة.
(2)
الإيمان بالغيب هو أحد أركان الإيمان، في عقيدة المسلم. ولكن لم يقل لنا أحد إن من مقتضيات هذا الإيمان انتظار حدوث المعجزة، وإن استقر في الوجدان الجمعي للمسلمين أن الله تعالى معهم، وهم خير أمةٍ أخرجت للناس. وبالتالي لن يخذلهم ربهم، وسيدافع عنهم، باعتبارهم "المؤمنين" أصحاب الحق، وشيئا فشيئا، ولكثرة الحديث عن مواجهة آخر الزمان، بدا أننا تحوّلنا إلى ديناصورات، أو مستحاثات بشرية، منهكة، عديمة القوة، رخوة، تنتظر أن ينزل عليها الفرج من الغيم، بل بدا أن الأمر اتخذ مسارا أكثر سوءا، حين تحوّل العقل الجمعي في بلادنا إلى منحىً تخديري، يعتقد أن أي مواجهة مبكّرة للعدو لن تكون نتيجتها لصالحنا، لأن الوقت لم يحن بعد للمواجهة. ولهذا لا فائدة من الإعداد و"تعب البال". وفي الأثناء، ضاعت الفرص، واحتلت البلاد، ودخلت الأمة في سبات عميق.
(3)
الأخطر من هذا كله اعتقاد المسلمين أنهم دون خلق الله، تحكُمهم قوانين خاصة في النصر والهزيمة، منشأ هذا الاعتقاد أن "النصر من عند الله". ولهذا، لا داعي للإعداد له، ناسين أو 
متناسين، الدعوة الصريحة "وأعدوا لهم ما استطعتم…الآية". الفهم المغلوط هنا أن قوانين النصر والهزيمة متعلقة بالقوة والإعداد، خصوصا إذا تساوى الخصمان في "الإيمان" والحقيقة أن حال "أمة محمد!" لا يكاد يختلف عن غيرها من الأمم، من حيث الإيمان، وتطبيق شروط العدل. واستحضر هنا مقولة بالغة الدلالة لشيخ الإسلام ابن تيمية، حين كتب في "الفتاوى" في "رسالة في الحسبة": فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ وَعَاقِبَةُ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ. وَلِهَذَا يُرْوَى أن "اللَّهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ، وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً".
بمعنى آخر، قوانين النصر والهزيمة متعلقة بالقوة والإعداد والتجهيز، خصوصا إذا تساوى الخصمان في طبيعة علاقتهما مع السماء، فالنصر هنا ينبعث من الأرض، لا من السماء، وحسب موازين القوى، ولا علاقة له بالغيب ووعوده.
(4)
من أوجه الانتظار الأكثر إيلاما، انتظار حصول معجزة، فبعضنا يحشد للأمر كمياتٍ كبيرةً من الأدعية، ويطيل النظر إلى السماء، من دون أن يأتي ولو بحركة، حتى لو كانت صغيرة، لاستمطار ما ينتظره، بل هناك من يعتقد أن دعاءه قادرٌ على إنزال المطر في عز تموز، موهما نفسَه بعلاقته الحميمة والموصولة مع الخالق عز وجل، والذي لا يردّ له دعاء، من دون الأخذ بالأسباب. وهناك دعاء متكرّر في كل صلاة جمعة، يُقال بصيغ مختلفة، ولكن فحواه سؤال الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين. والصحيح أن ما حصل، طوال مدة رفع الدعاء إلى السماء، أن المسلمين شهدوا مزيدا من الانتكاسات، وإنْ لم يخل الأمر من بعض الانتصارات الهامشية، هنا أو هناك. فحوى الأمر أن الأدعية لن تكون بحال مضادّة للطائرات التي تقصف عباد الله بالحمم، وحرق عجل سيارة مستعمل، من أطفال القدس مثلا، لصناعة غمامة سوداء تمنع الرؤية عن مهاجمي رماة الحجارة من قناصي "العدو" أفضل من كل الأدعية التي زمجرت في حناجرنا، مستمطرة النصر، من دون الإعداد له.
(5)
ما أصاب العقل الفردي من سيولةٍ في الفهم أصاب العقل الجمعي لجماعات وأحزاب وحركات التغيير، حين باتت تعتقد أن المحن التي تمرّ بها هي من قبيل الابتلاء، بل النعم التي يخصّها بها رب العزة لاختبار قوتها على الصمود، وقلةٌ هم من يعرفون أن هذه المحن مجرد عقوباتٍ لهم على تقصيراتهم، وأن الأمر يحتاج إلى مراجعاتٍ ونقد ذاتي لإصلاح المسير، لا التلذّذ بالابتلاء، تحت مفهوم "المؤمنون أشد بلوى".
حينما تخلت الأمة عن ذاتها، وسلمت كل مقاليد الأمر للغيب، وانتظار ملحمة آخر الزمان، تخلت عنها الأرض والسماء معا.