محاكمة قتلة خاشقجي.. الإنكار السعودي دائما

محاكمة قتلة خاشقجي.. الإنكار السعودي دائما

08 يناير 2019
+ الخط -
على الرغم مما تلقّته العربية السعودية من انتقادات تتعلق بقضية اغتيال الإعلامي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول، في 2 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وعلى الرغم من المطالبات الدولية باعتماد الشفافية في التحقيق بالجريمة، ومحاسبة الفاعلين ومُصْدري أمر القتل، إلا أن السلطات السعودية تواصل العمل بمفردها، وبسرية، لمعالجة هذه القضية، مكرّسة بذلك سياسة الإنكار المستمرة حول المسؤول الأساسي عن الجريمة. وكان عقد أولى جلسات المحكمة الخاصة بجريمة القتل، يوم الخميس الماضي، في الرياض، بمثابة الرسالة الواضحة أن المملكة لن ترضخ للضغوط من أجل محاكمةٍ علنيةٍ، وبوجود مراقبين دوليين، وبالتالي استمرار مسلسل التستر من أجل إخراج ولي عهدها، محمد بن سلمان، من دائرة الشبهات، ومنع تلقيه العقاب المناسب عن مسؤوليته المباشرة عن الجريمة. 
وبالإعلان عن المحاكمة، تكون السلطات السعودية قد ضربت بموضوع التحقيق وشفافيته وشموليته عرض الحائط، وفق المطالبات المتكرّرة التي تصدر بين حين وآخر عن الأمم المتحدة وأمينها العام ومسؤولين آخرين فيها، علاوة على مطالبات كثير من قادة دول العالم.

وأدخلت السلطات التحقيق، بذلك، في السراديب السرية حتى لا يُعرف له قرار. وما زاد في غموض المسألة هو الامتناع عن ذكر هوية من شملتهم المحاكمة أو التهم الموجهة إليهم، أو أيٍّ من حيثيات التحقيق التي أوصلتهم إلى قوس المحكمة، وخوَّلها إصدار أحكام بحقهم. وتعد تلك الإجراءات مسلماتٍ في سلك القضاء، لا يمكن اعتبار الحكم الصادر عن المحكمة شرعياً من دون إعلانه، وتبنيد الإجراءات التي اتبعت للوصول إلى الأحكام، خصوصا مع جريمة، جعل اقترافها على أرض دولة أخرى، وفي حرم قنصلية وظيفتها تسهيل أمور رعايا الدولة لا قتلهم، إضافة إلى أهمية شخصية المجني عليه، والتمثيل بجثته وإخفائها، جريمةً دولية تستدعي محكمة دولية تجري مداولاتها علناً وبوجود وسائل الإعلام.
ولكن، ما الذي يمنع السلطات السعودية من توسيع التحقيق والاستجابة للمطالبات بإشراك أطراف دولية فيه، وصولاً إلى تسليم الجناة لتركيا للتحقيق معهم، حيث وقعت الجريمة على أراضيها؟ لابد أن دوائر صنع القرار في المملكة قد أيقنت أن مَنْ أصدر قرار قتل خاشقجي هو في مركزٍ يجعل إدانته إدانةً للمملكة برمّتها، ويضعها أمام المساءلة الدولية، وربما موضوع عقوباتٍ أممية لا تكتفي بمعاقبة الجاني الرئيسي، أي محمد بن سلمان، الذي أجمع مسؤولون دوليون، ووسائل إعلام، على أنه من أصدر الأمر بالقتل. وقد استندوا في ذلك إلى أنه الآمر الناهي، في ظل قصور والده، وبفضل الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها، إضافة إلى ما تبيَّن من أن أفرادا في المجموعة التي قتلت خاشقجي هم من مرافقة بن سلمان الشخصيين، بغض النظر عن أن أحداً في السعودية لا يمكنه اتخاذ قرارٍ، مهما صغر شأنه، من دون تخويلٍ من السلطات، فما بالك بأمر القتل في قنصلية البلاد.
واضح أن سلطات المملكة تسابق الزمن من أجل طمس الأدلة، حين تصدر أحكام إعدام بحق خمسة ممن شاركوا في قتل خاشقجي، حيث إنهم، بالعرف القضائي، وإضافة إلى أنهم جناةً، فإنهم، في الوقت عينه، شهود أيضاً، وهو ما يمكِّنها شيئاً فشيئاً من إبعاد الشبهات عن بن سلمان. كما أن هنالك نقيصة في ملف الجريمة وفي إجراءات التحقيق، تجعل من إعدام المتهمين غير شرعي، وهو اختفاء الجثة. إذ من المعروف أن التحقيق لا يكتمل إلا بظهور الجثة وفحصها، والوقوف على ملابسات عملية القتل، والسلاح المستخدم في تنفيذ الجريمة، والغرض من عملية القتل. وهو أمر يعدُّ من بديهيات العملية القانونية، حيث لا يُبت في القضية من دونه، مهما طالت فترة احتجاز المتهمين والتحقيق معهم.

وكما كان منتظراً، وعلى العكس مما رجته السلطات السعودية، كانت ردود الفعل الدولية والإعلام تجاه المحاكمة وأحكام الإعدام التي أصدرتها سلبيةً، بل كرست الاعتقاد بأن المملكة ماضيةٌ في رفض التعاون الدولي، من أجل جلاء ملابسات القضية. وجاءت إدانة العملية القضائية من حيث لم تحتسب هذه السلطات، حيث قال مسؤول في الخارجية الأميركية عن عدم اعتقاده أن الرواية التي يقدمها السعوديون بشأن مقتل خاشقجي، أو العملية القضائية، قد وصلت إلى مستوى المصداقية وتحقيق المساءلة. كما أكد على أهمية "عملية قضائية ذات مصداقية"
لمحاسبة المسؤولين عن التخطيط وعن تنفيذ عملية القتل. وجاءت هذه التصريحات عشية توجه وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى الرياض، حيث قال المسؤول إن بومبيو سيسعى إلى الاطلاع على آخر مستجدات التحقيقات في القضية. وهو أمر يجعل جهد السلطات السعودية، وفريق ولي العهد الضاغط في واشنطن للمساعدة في إخراجه من ورطته، تذهب أدراج الرياح.
من الواضح أن الروايات المتكرّرة والمتناقضة التي ساقتها السعودية لإنكار عملية قتل خاشقجي، ومن ثم لتصوير حيثياتها، على عكس الرواية الحقيقية، وبعد ذلك الروايات التي تبعت تلك من أجل تبرئة ساحة ولي عهدها، لم تنفع، لذلك لم ترَ بُداً من إخفاء الأدلة والشهود. ومن هنا، تأتي عملية إعدام المتهمين في سياق هذا الإنكار، وفي سياق السعي إلى إخراج بن سلمان من هذه الورطة. وربما لن يتأخر الوقت كثيراً حتى تُعقد جلسات المحكمة من جديد، وترسل متهمين آخرين إلى الإعدام، فتخلو الساحة من الشهود، وتسعد السلطات بإبعاد بن سلمان عن الإدانة. لكن ذلك كله لن يمنع من تغيير صورة بن سلمان، أو تغيير صورة المملكة في مجال انتهاك حقوق الإنسان، صورٌ جعلها قتل خاشقجي تظهر بوضوح افتقدته طيلة سني عمر المملكة.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.