في خدش الحياء

في خدش الحياء

08 يناير 2019

(مروان قصاب)

+ الخط -
يحبّ العرب إجمالا عبارة "خدش الحياء"، ويقيمون لها أيّما اعتبار. فهي، على ما تحويه من غمز ولمز وتلميح، تحمل شحنةً كبيرةً من إثارةٍ لا بدّ لها من شحذ الفضول، ومن جذب الاهتمام. والواقع أنه يكفي أن نقلّب وسائلَ الإعلام العربية على اختلافها، ورقية أو افتراضية أو سمعية/ بصرية، لكي نجد أن أهمّ ما تقدّمه من مغرياتٍ لجذب القرّاء إليها يترافق غالبا والموضوع السحريّ: "خدش الحياء"، ذلك أن فيه ضغطا لزرّ الإيحاء الجنسي، بما يفترضه من تجاوزٍ للممنوع وكسرٍ للمحرّم.
والحياء العربي الذي نحن بصدد الحديث عنه حسّاسٌ جدا، ورهيفٌ رقيقٌ، إذ يكفيه القليلُ حتى يُخدش، لكأنّه مصنوعٌ من حرير، أو من جِلد رقيقٍ ناعمٍ كجلد مولودٍ جديد. والحال أنه بات اليوم معبود الجماهير، يستنهض هممَ الجميع من حماة الأخلاق والمدافعين عن الصراط المستقيم، ما إن يتطاول عليه أحد، كائنا من كان، فيُستدعى القانون على عجلٍ، كي يتدخّل محاسِبا ورادِعا، محاكِما ومعاقِبا، كلَّ من تسوّل له نفسُه المساس به.
وخدش الحياء، لمزيد من الوضوح، قد يكون في كتابة قصيدةٍ ما، أو في سرد روايةٍ، أو في صنع منحوتةٍ فنية، أو رسمٍ تشكيلي. وقد يكون في أغنيةٍ، في رقصةٍ، أو حتى في ثوبٍ يشفّ، فيقيم الدنيا ولا يقعدها، ويتمّ إرغام مرتديته على تقديم اعتذارها للجماهير المخدوش حياؤها، أكثر من مرة، فيما الدموع تترقرق في عينيها دليلا على ندمها وصدق توبتها.
والطريف الغريب أنه بات بإمكان أي فردٍ في العالم العربي، أو أي مواطنٍ، نكرة، جاهل، عديم الثقافة، في دولةٍ لا تقيم وزنا لحرية الفرد أو لحرية التعبير، أن يُشهّر بنصّ أو بكاتب أو بفنّان، داعيا إلى محاكمته، منعا ومقاضاة وسجنا، لأنه شعر بأن "حياءه" البائس قد خُدش!
بيد أن المأسويّ، أي المضحك والمبكي في آن، هو أن الحياء العربيّ يكون مفرط الحساسية، حيث لا وجود لأي معنى أو قيمةٍ حقيقة، في حين أنه يتبلّد ويتملّص، ولا يبالي، حين يتعلّق الأمر بما ينبغي له، لا أن يُخدش فحسب، بل أن يصيب ويجرح بعمق. فلا موت الأطفال السوريين في الكيميائي وتحت البراميل، يقيم الدنيا ويقعدها، ولا نزوح الملايين وتشرّدهم يفعل، ولا ضرب الجوع في اليمن لملايين البشر، ولا انهيار دولٍ برمتها، ولا اغتيال معارضين، ولا سجن أبرياء، ولا اضطهاد فقراء.
تتكاثر الأنباء عن جرائم شرف، وعن أزواجٍ وحوشٍ يُميتون زوجاتهم ضربا، وإخوة متنمّرين يقتلون أخواتهم الشابات، ليغسلوا عارهم، وآباء عارٍ يغتصبون بناتهم تحت ستر الأخلاق، ولا يتحرّك الحياءُ. تتكاثر الأخبار عن فقراء يموتون على أبواب المستشفيات، لأنهم لا يملكون أن يدفعوا ثمن طبابتهم، وعن لصوصٍ يُحاكمون ويجبرون على دفع غرامةٍ لا يملكون قيمتها، بسبب سرقتهم ربطتي خبز لإطعام صغارهم، وعن أطفالٍ يُتركون في الشوارع للتسوّل، أو يتمّ تشغيلهم بأجور زهيدة لا تكفيهم قوتا يملأ بطونهم، ولا يُخدش الحياءُ ولا يتحرّك.
يُقتل صحافيون بسبب آرائهم، ويُقطّعون إربا، وتخفى آثارُهم تحت سابع أرض، ولا يتحرّك الحياء. يكذب الأسياد، ويستغلّون ويقتلون ويرتكبون كل أنواع الفحشاء، ولا يحاسَبون ولا يُخدش الحياء. تختفي مدنٌ بأكملها، تدكّ من أساسها، وتنهض جدرانُ عزْل، وتُباد شعوبٌ، وتُحرق أراضٍ وتُقتلع أشجار، ولا يتحرّك الحياء إياه، لأنه حياءٌ من نوع خاص، مصمّمٌ ومقصوصٌ على الطلب، يُصنَّع في أمكنةٍ خاصة، ثم يُزرع في الأدمغة التي يتمّ غسلها قبلا بماء النار.
حياءٌ عربيّ بامتياز، والويل لمن تسوّل له نفسُه أن يرميه بوردة.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"