التاريخ بين التقديس والتدليس

التاريخ بين التقديس والتدليس

07 يناير 2019
+ الخط -
التاريخ هو سجل البشر الحافل بأعمالهم عبر امتداده الزمني، مع كرّ الحضارات المتعاقبة منذ ذلك الزمن السحيق. ويكاد التاريخ أن يكون هو الإنسان نفسه، إذ يقول الشاعر عبدالله البردوني: "كما أن الإنسان صانع التاريخ، فإنّه مادة صناعته، لأن التاريخ معرض أعمال البشر، حميدها وذميمها، فالإنسان هو التاريخ عارضاً ومعروضاً، كاتباً ومكتوباً عنه، متطوراً مع التاريخ بمقدار تطوّر التاريخ به".
وهذا التاريخ المدوَّن قام بتدوينه القاهرون على أعدائهم، سواء في لحظة الحدث أو بعد ذلك، فهل كان هذا التدوين حقيقياً ومطابقاً لما حدث فعلاً؟ قد نتفق أنه ليس تماماً، وأنّ فيه من الأحداث الكثير، لكن الصورة ليست مكتملة، وما وصل إلينا عبر امتداد القرون المتعاقبة هو ما أفلت من تحت يدي الأيام من توثيق ما استطاعت أن توثقه، بل وساعدتها الظروف العديدة في بقاء هذا التوثيق حاضراً عبر العصور. لكن هذا ليس كل شيء، فما كتبه المؤرخون لا يكاد يتعدّى التاريخ السياسي للأحداث وما يدور حول الطبقة الحاكمة؛ فهو تاريخ "ملوكي"، لا يُعنى بغير الملوك وقوادهم ووزرائهم، وما تفجرت في عهودهم من أحداث، وما أخمدوا من انتفاضات، ولا يكاد يعتني بشخصياتٍ من عامة الشعب، ولو دوّنوا شيئا عن هؤلاء الأخيرين، فلن يكون إلا هامشيا على متن التاريخ السياسي.
يقول المؤرخ الأميركي، ويل ديورانت، صاحب "قصة الحضارة" ملخصا الحضارة: "هي نهر ذو ضفتين يمتلئ أحيانا بدماء الناس الذين يقتلون ويسرقون ويصيحون ويفعلون أشياء يسجلها المؤرخون عادة. ولكننا نجد على الضفتين، في الوقت ذاته، أناسا لا يحس بهم أحد وهم يبنون البيوت، ويمارسون الحب والجنس، ويربون الأطفال، ويتغنون بالأغاني، وينظمون الشعر، بل ينحتون التماثيل. وقصة الحضارة هي قصة ما حدث على الضفتين. ولكن المؤرخين متشائمون، لأنهم يتجاهلون الضفاف ويتعلقون بالنهر".
مشكلاتنا في عالمنا العربي والإسلامي مع التاريخ متعددة، تبدأ من قراءتنا هذا التاريخ بعين واحدة متفردة من دون النظر إليه من جوانب متعدّدة ضمن التاريخي الإنساني الكبير؛ لأنّ تجربتنا الحياتية لا تنفصل عن التجربة الإنسانية الكبيرة. وكذلك في التعامل مع تاريخنا في حدية؛ فنحن إما مقدِّس هذا التاريخ بكل حيثياته، أو ناقد له، وهناك منْ يحاول تلمّس طريقه وسط زخم هذا التاريخ الذي شق حقبة ألف وأربعمائة عام من جسد التاريخ الإنساني، ووصل تراث هذا التاريخ إلينا من دون أدنى غربلة تُذكر، لكن كتبا وروايات ونصوصا امتلأت بها المكتبة الإسلامية.
فأدى التعامل المقدِّس للتاريخ إلى اختلاط الإرث التاريخي بالديني؛ فتعدّدت الأمة فرقاً وجماعات، كلٌ يغرف من هذا الإرث ما يدعم حجته ويفنّد حجج الآخرين؟!
فكان من نتاج هذا التقديس أن "يأخذ أموات الماضي برقاب أحياء الحاضر"، وننكفئ في ماضوية مقيتة تجتر أحداث الماضي كل يوم دون أن تضيف للإرث الإنساني أي شيء.
أما التعامل الناقد (أي لمجرّد النقد فقط) أدّى إلى التفلّت من كل جذر وهوية لنا، والبحث عن هويات أخرى لتغطية هذا الفراغ. ونوع عجيب من التعامل؛ ذلك الذي ينظر إلى تاريخنا كأنه مجرد بطولات يستمتع بها على طريقة سرد الحكاية في ألف ليلة وليلة! كما يقول نزار قباني: "شرقُنا الباحثُ عن كلِّ بطولةْ في أبي زيد الهلالي".
هذه البطولات التي يريد أن يستحضرها كل نابش في التاريخ في كل موقف حاضر من دون أدنى آلية لكيفية وجودها في حاضر الأمة المتردي.
الوعي بالتاريخ هو الوعي بالذات نفسها، والوعي بالحاضر المعاش، كما يقول فرناند بروديل "نظرتنا للتاريخ تعبّر دوما عن توتراتنا في الحاضر وتوقعاتنا للمستقبل".
يقول محمد عمارة: "إنّ قراءة التاريخ تضيف إلى القارئين أعمار السابقين، أما الوعي بالتاريخ، فإنه يوّظف ثمرات هذه القراءة في تغيير الواقع واستشراف المستقبل، فيصبح هذا الوعي اسهاماً في صناعة التاريخ". ذلك أن ما يكتبه المؤرخون في كل العصور عن ذلك الحدث هو قراءتهم لذلك الحدث، ضمن تأثير ظروف عصرهم الذي يعيشون فيه، لتأتي قراءتهم عصرية للحدث. طبعا لن يغيّروا من وضعية الأحداث التي تمت، لكنهم يربطوها بواقعهم المعاش، متجاوزين كل مشكلات الحاضر بذخيرة الخبرة المكتسبة من التاريخ عن تلك المشكلات نفسها "لأن التاريخ يحمل في داخله نوعا من الإنذار المبكر لمنْ يعرفون كيف ينصتوا إليه أو يحسنون قراءته".
هذه القراءة/ الكتابة، أو لنِسَمّها إعادة قراءة للتاريخ، تساعد المؤرخ لوضع الحاضر في مكانه الصحيح، ذلك أن التاريخ يوّسع مدى إدراكنا العملية التاريخية؛ فمعرفة كيفية عمل المجتمع في الماضي تفتح عيوننا على الإمكانات والبدائل الكامنة في الحاضر، فالتاريخ حوار بين الحاضر والماضي، فتصبح درجة التقدم في علم التاريخ ونضجه "إنما تعبر عن درجة نضج الحاضر أكثر مما تعبر عن درجة عظمة الماضي".
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري