سمبوكا.. لو تعلّمنا النباح

سمبوكا.. لو تعلّمنا النباح

06 يناير 2019
+ الخط -
منذ سمع صاحبنا عن الكلبة سمبوكا التي قرّرت صاحبتها تسفيرها إلى أميركا، بسبب المعاملة السيئة التي تعرّضت لها في إحدى المدن الأردنية، وهو مصابٌ بحالةٍ هستيريةٍ، تكاد تنتشله من يأسه المستفحل الذي يقبع فيه منذ أزمان.
حاول، في البداية، أن يقنع نفسه، بأن القصة محض خيال، لا تتعدّى فضاء الإشاعات التي تملأ البلد بين حين وآخر، غير أن تداولها عبر مواقع إخبارية موثوقة لم يفسح له مجالًا للتأويل:
"أعلنت السيدة الأردنية (...) عن قرار تسفير كلبةٍ تدعى سمبوكا إلى نيويورك، بعد تقديم العلاج لها إثر إصابتها بعياراتٍ ناريةٍ وتعذيبٍ من خلال إطفاء سجائر بجسدها في محافظة الزرقاء. وأشارت صاحبة الكلبة إلى أنها ستسافر في عمل إلى نيويورك مع سمبوكا، بهدف إبعادها عن أجواء التعذيب والضرب التي تعرّضت لها خلال وجودها في الزرقاء".
التهبت خلايا صاحبنا، ووجد أن الفرصة قد أزفت أخيرًا للخلاص من "أجواء التعذيب" التي يتعرّض لها هو الآخر، وإن اختلفت طرزه وضروبه، إذ ما الفرق بين رشقة رصاصٍ ورشقة فقر، على الرغم من أن ندوب الأخيرة تظل قائمةً في الروح، حتى بعد فراقها عن جسدها، بل ورأى أن الفقر ليس قدرًا، بل انتهاكًا مبيّتًا ضده وأمثاله، لتمرير سائر السياسات الحكومية بلا عناء أو احتجاج، عبر إعادة المواطن إلى غريزته الأولى، المتمثلة بالجوع.
أيضًا، رأى صاحبنا، أنه أحقّ من سمبوكا بالهجرة؛ لأن الاعتداءات على حقوقه أسبق زمنًا مما لحق بالكلبة، فهو يعاني من العطالة منذ سنوات، بفضل الخطط الاقتصادية الفاشلة، وهذا انتهاك. كما يعاني من الحرق بأعقاب السجائر الحكومية التي تترك آثارها على حرياته المختطفة، وعلى أوتار صوته التي لا يسمح لها بالاحتجاج أو الشكوى، وتُقابل بالهراوات والمعتقلات، وهذا انتهاك أيضًا.
حاصل القول، قرّر صاحبنا أنه آن الأوان لاتخاذ خطوةٍ تنشله من أزماته، ومرافقة الكلبة سمبوكا إلى السفارة الأميركية للحصول على تأشيرة (فيزا) تسعفه بالعلاج من حروقه وجروحه وندوبه المستفحلة، ولسان حاله يقول: "إذا كانت سمبوكا ستحصل على الفيزا، فمن حقي أن أحصل عليها أيضًا".
في البداية، دخل صاحبنا في دوامة تفكيرٍ مضن، عن الهيئة التي ينبغي أن يكون عليها ليقنع موظفي السفارة بأحقيته في الحصول على التأشيرة، ومنها أن يستعير بذلة وربطة عنق من جاره المكوجي، وأن يحلق ذقنه، ويتعطّر، فهذا مما يرتاح له الخواجات بالتأكيد، لكنه تذكّر أن الكلبة سمبوكا لم تفعل هذا كله وحصلت على التأشيرة من الباب الرئيسي المكتوب على مدخله (ممنوع دخول البشر)، فقرّر أن يكون منسجمًا مع ذاته ويبقى في ثيابه المهترئة ذاتها، وتلك الخطوة الأولى.
وفي الخطوة الثانية، راح يفكّر: هل من الأدعى له أن يحشر جسده في قفص، كما فعلت سمبوكا، ليماثلها في الحضور، أم الأفضل أن يكون طليقًا، غير أنه سرعان ما طرد هذا الخاطر؛ لأنه يعلم جيدًا أنه في واقع الأمر يعيش في مثل هذا الفقص، منذ خُلق عربيًّا، وإن كان القفص غير مرئيّ، وإلا فما معنى كل هذه القضبان من الممنوعات والمحظورات التي هدر حياته بينها، ولا بدّ أن يشعر موظفو السفارة بهذا القفص، فيدمغون له التأشيرة على قفصه، حالما يرونه داخلًا إليهم.
ابتسم لهذا التحليل، ولم يبق أمامه غير السيرة الذاتية التي عليه أن يقدّمها، ليقنع الموظفين بأهليته للهجرة، فراح يكتب: "أنا عربيّ مجهول.."، غير أنه تردّد ثانية، لأن الشعوب العربية كلها مجهولة، وهذا لن يضيف إلى الحقائق التي يعرفها الخواجات شيئًا، ثم راح يفكّر في الطريقة التي قدّمت فيها سمبوكا ذاتها وسيرتها الذاتية التي أذهلت موظفي السفارة، وأخرجتها من محنتها في وطنها..، ثم سرعان ما قفز عن مقعده، وهو يردّد بأسى:
- آه، اللعنة، على سمبوكا أن تعلمني النباح أولًا.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.