حطب في قطرميز

حطب في قطرميز

06 يناير 2019
+ الخط -
كان أستاذُنا الأديب الراحل، حسيب كيالي، إذا أراد أن يُعَبّر عن مسألة عَويصة، وغير متلائمة، و"مفشكلة"، يلجأ إلى استخدام التعبير الشعبي القائل: حَطَبْ في قطرميز. السر الكامن في اختراع هذا المصطلح أن القطرميزات الزجاجية تُستخدم عادةً لحفظ الأشياء الصغيرة والمنتظمة، وذات القيمة الغذائية العالية، مثل الجبن والزيتون والعسل والمربى والمَكْدوس، بينما يُحْزَمُ الحطب في ربطاتٍ ضخمة، ويُحَمَّلُ على ظهور البغال، أو يُشْحَطُ بمؤخرة التركتور. وفي أحسن الأحوال، يُنقل ضمن سيارات شاحنة، ويُكَوَّم في ساحات المنازل الخارجية، من دون أي حراسة أو اهتمام.
أظن أن هذا التعبير الاصطلاحي يلزم لنا اليومَ أكثر من أي وقت مضى، فإدخال الحطب في القطرميزات، على الرغم من اقترابه من الاستحالة، يجري اليوم على قدم وساق، ومن أعلى المستويات إلى أدناها.. فأنت لا تعدم محللاً استراتيجياً "يَتَمَطْرَق" في استوديو إحدى الفضائيات، وقد ارتدى الطقم الرسمي، وأرخى ربطة عنقه، حتى وصلت إلى ما تحت سرّته، وراح يتحدث مُبْدِياً استغرابه من إعادة دولة الإمارات فَتح سفارتها عند نظام الأسد، ما يوحي بوجود قناعةٍ لديه بأن الإمارات كانت تخاصم نظام الأسد، قبل ذلك، بالفعل! بينما تكتب محلّلة استراتيجية سورية، تحمل دكتوراه في العلوم السياسية، على صفحتها الفيسبوكية، إن إعادة فتح سفارات بعض الدول الخليجية في دمشق جاء متأخراً جداً. وتتساءل، بالحرف الواحد: بعد شو فتحوا السفارة؟ بعدما خربت سورية؟ وهذا يدل على أن الدكتورة المحترمة كانت تبحث عن الجهة التي ألقت القذائف والبراميل المتفجرة والصواريخ البالستية والكيماوي على الشعب، وخَرَّبَتْ سورية، وهَجَّرَتْ نصف سكانها، وقد هداها الله تعالى، أخيراً، إلى أن هذا الخراب كان نتيجةً حتمية لإغلاق سفارات الإمارات والبحرين والسودان وموريتانيا في دمشق.
سبب تدمير سورية، بحسب أحد منظري الإخوان المسلمين، هو أن أستاذنا الدكتور صادق جلال العظم كان آبقاً. ولذلك خصّه بتصنيفٍ صاخبٍ ضمن سلسلة الآبقين، بينما يعزو صحافي إسلامي مُعَارض فشل الثورة السورية إلى اشتراك العَلمانيين "الكلاب" فيها.. فبرأيه لو كانت ثورتنا إسلاميةً على نحو متجانس، ومُرَكَّز، لكنا قضينا على العدو النصيري الصائل، وحلفائه من الروافض، والدروز، والشيوعيين الماركسيين اللينيين (يقصد الروس). وكان من أسباب انحدار العمل الإعلامي الثوري في سورية، كما يقول الصحافي نفسه في مناسبةٍ أخرى، أن ثمانين بالمئة من الصحافيين السوريين يعملون لقاء رواتب تدفعها لهم جهةٌ لا يتعاطف هو معها، فالعقل والحكمة يقولان إنه لو بقي الصحافيون المذكورون عاطلين عن العمل، يعانون من الفقر والحاجة في دول اللجوء، ويتسوّلون المعونات من منظمات الإغاثة، لشعروا بمعاناة الأمة الإسلامية التي يجدر بهم أن ينصروها ويدافعوا عنها، ومن ثم يهيئون الظروف للانتصار على العدو.
إدخال الحطب في القطرميز الزجاجي، حقيقةً، أسهل بكثير من إدخال المصطلحات النقدية الأدبية إلى أحد السجون السورية التي تعتبر من أكثر سجون العالم وحشيةً وإذلالاً للسجناء في العالم. لنا صديق أمضى خمس عشرة سنة في أحد تلك السجون حلف أمامنا يميناً معظّماً أن السجين لا يمانع في أن يتلقى رفسة على حين غرة، لأن إلغاء الرفس في السجون السورية هو المستحيل بذاته، ولكنه يدعو الله تعالى ألا تأتي الرفسة المفاجئة على خصيتيه، فوقتها قد يموت من شدة الألم، وبالنسبة للشتائم على الأمهات وبقية المحارم فحَدِّثْ عنها ولا حرج، حتى إن السجناء السوريين وصلوا إلى وقتٍ ما عادوا يُصَنِّفُون كلمة "كر" في خانة الشتائم، بل ربما تستخدم للمديح مثل كلمة "وحش" في الجيش.. ومع ذلك رأينا الناقد الأدبي الدكتور نضال الصالح يشارك في احتفاليةٍ إعلاميةٍ أقيمت أخيرا في سجن عدرا، ويقول لمندوب التلفزيون إن فضاء السجن يبدو فضاءً يقيّد الحرية، ولكنه اليومَ قد أصبح فضاء للحرية، فضاء للتعبير، فضاء للإبداع!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...