إلى أين يسير العالم الأعمى؟

إلى أين يسير العالم الأعمى؟

05 يناير 2019
+ الخط -
ربما لا يتعلق الأمر بوقوع مصادفاتٍ أن تنطلق، مع نهاية العام المنصرم (2018)، تقديراتٌ على درجةٍ من التشاؤم، لما ينتظر منطقتنا وعالمنا خلال فترةٍ قد لا تزيد عن عامين. والمنتظر هو حروب وبطالة وتضخم وفقر وإفلاس دول، وتقهقر في الخدمات الأساسية، وانكماش حاد في فرص التوظيف وتجدّد موجة الإرهاب، وسوى ذلك من مظاهر تؤشّر على عمق الأزمة التي تهدّد مناطق واسعة من العالم، ابتداء من أميركا في عهد دونالد ترامب، المهدّدة بنشوب أزمة طاقة مع أواخر هذا العام 2019.
يرى الباحث الأميركي البارز، ريتشارد هاس، تطورات قاتمة، تنتظر عالمنا، وخصوصا الشرق الأوسط. وعلى ما قاله في حوار مع قناة أميركية قبل أيام، "من القوانين الأساسية في الشرق الأوسط أن تسوء الأمور، قبل أن تصبح أكثر سوءاً". وسبق أن عمل هاس في وزارتي الدفاع والخارجية، ويترأس مجلس الشؤون الخارجية. ويتوقع حروبا تكون إيران وإسرائيل والسعودية أطرافا فيها. مع عدم عودة الوضع في سورية أبدا إلى العهد السابق. على أن هاس، وهو يقوم بمهمة التوصيف وبسط التوقعات هذه، وهو المحافظ المعتدل، لا يقوم بتحليل الأوضاع وتحديد المسؤوليات، فالنظام الدولي بات لا نظاماً، وعلى قدرٍ كبير من السيولة، وبأقل قدر من الضبط، والأمم المتحدة تفقد أكثر فأكثر مكانتها المعنوية، وتتحول إلى منصةٍ للخطابات، ومجلس الأمن يتحول إلى ساحة مبارزةٍ لاستخدام الفيتو بين كل من أميركا وروسيا والصين. وليس هناك بين هذه الدول من يعبأ بقرارات الشرعية الدولية، إذ إن تجاوز هذه 
القرارات هو ديدن هذه الدول، ولا أحد من الدول الخمس دائمة العضوية يشجّع على توسيع دائرة العضوية في المجلس، أو على إعادة النظر في نظام عمل المجلس، وآلية اتخاذ قراراته.
وفي قراءته التحذيرية، لا يستبعد هاس استخدام أسلحة نووية في صراعات الشرق الأوسط من طرف دولٍ ليس معلوما عنها توفرها على امتلاك هذه الأسلحة، مثل مصر وتركيا والسعودية. والأكثر غرابة إغفال ذكر إسرائيل وإيران بين هذه الدول، وإن كانت هاتان الدولتان، حسب تقديره، مرشحتين لمزيد من الانخراط المباشر في الصراعات المسلحة. فيما يبدو الشرق الأوسط أمام ناظريه في وضع سيئ بجميع اتجاهاته، فـ "الحدود فيه لا تعني شيئا، والدول بدأت بالانهيار من الداخل، ولا وجود لمفاوضات جدية".
وقال لقناة إم أس إن بي سي الأميركية إن ما يحدث في الشرق الأوسط لن يبقى هناك فقط، إذ "لدى مشكلات الشرق الأوسط القدرة على الانتشار في جميع العالم". وما يجهر به الخبير الأميركي يتحسّسه كل متابع لأوضاع منطقتنا، فغياب الضبط الدولي، واضمحلال الحد الأدنى الأخلاقي للنظام الدولي، يشجعان أطرافا إقليمية على تضخيم أدوارها، وتعظيم ما تراه من مصالحها الآنية والبعيدة، فيما يقوم اللانظام الدولي بتغذية هذه الصراعات، كما بالتحالف الأميركي مع إسرائيل والتحالف الروسي مع إيران، ولم يلحظ هاس أن اكتفاء واشنطن بمحاربة إرهاب "داعش"، وتصليب النزعة التوسعية الإسرائيلية، واعتماد سياسة تقليص الوجود في ما عدا ذلك، قد أدت إلى "فراغ" تملأه إيران وروسيا، وبما يفيض عن مساحة هذا الفراغ، أو حجمه. وباعتمادها هذه السياسة المفرطة في السلبية، يتحول الشرق الأوسط إلى بيئة تزدهر فيها التوترات الخطيرة، ويتفشّى صراع الهويات الطائفية والعرقية، ويتم استخدام المدنيين وقودا للصراعات، وعلى نحو لم يشهد مثله تاريخ الصراعات في المنطقة.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، إذ يشهد عالمنا ومنطقتنا اختلاط مفهوم السياسة بالبزنس (وليس مجرد الارتباط المعهود بين السياسة والاقتصاد)، وتوظيف المال أو استثماره لتحقيق غايات سياسية وعسكرية، ونشوء أشكال من التهريب وتبييض الأموال لشراء أسلحة، والفساد السياسي المتزايد، واضمحلال الروابط والكتل، مثل مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية، وارتفاع النبرة الحربية في الصراع على النفوذ بين الدول، كحديث مسؤول جزائري قبل أيام أن "مؤامرة إرهابية" تهدد بلاده "من عواصم عربية باستخدام اللاجئين لهذا الغرض"!
ليس بعيدا عن هذه التقديرات المتشائمة ما كتبه قبل أيام الخبير الاقتصادي وصاحب المجموعة 
الدولية، طلال أبو غزالة، في صحيفة جوردن تايمز الأردنية أن العالم بات يقف على عتبة أزمة اقتصادية عالمية في العام 2020، انطلاقا من أميركا التي سيرتفع فيها الدين العام والخاص إلى ما يزيد عن الناتج الوطني العام بـ 7%. ويعضد من الأزمة استنفاد مصادر الطاقة الأميركية، واللجوء مجدّدا إلى استيراد النفط، بما سيرفع أسعاره إلى 150 دولارا للبرميل، وهو ما سينعكس بالسوء على غالبية الدول، وبما يفوق الأزمة الاقتصادية التي شهدها عالمنا في العام 2008. وسيؤدي ذلك إلى تضخم البطالة وتفشي الفقر والغلاء، وانخفاض الاعتمادات لخدمات الصحة والتعليم. وهي تقديراتٌ سبق أن حذر منها اقتصادي أميركي بارز، هو نورييل روبيني، الذي يلحظ انعطاف أميركا نحو انخفاض في النمو، يقل عن 2% مع تراجع حاد في القدرات الشرائية.
ليس من المصادفة أن تتلاقى هذه التقديرات في وقتٍ متقارب، فخبراء السياسة والإدارة والاقتصاد هنا وهناك يؤدون دورهم في استقراء الأوضاع، والتحذير من المؤشرات الخطيرة. ويرى صاحب الصوت العربي (أبو غزالة) أن على الحكومات العربية وقوى المجتمع التهيؤ لاستقبال هذه الأزمة، وما تُنذر به من تأزم اجتماعي شديد، والعمل على احتوائها بسياسات منسّقة.
ويسترعي الانتباه أن العام 2020 هو الأخير في ولاية الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، وعام التحضير لانتخابات رئاسية لاحقة في الولايات المتحدة، وهو ما قد يؤدّي إلى توتراتٍ أميركية خليجية، في ضوء الارتفاع الهائل المتوقع لمداخيل النفط في دول الخليج، وذلك في ضوء طريقة التفكير التي باتت معهودة لدى ترامب، ما قد ينذر بفوضى خطيرة، تتجاوز الملاسنات التي دأب عليها ترامب بحق حلفائه. ولن تتدخل دول أخرى، مثل روسيا والصين، لاحتواء أي أزمة، بل ستكون سعيدةً بوقوعها، وذلك استنادا إلى خبرات سلوكها حيال الأزمات الإقليمية والعالمية. وكما يتصرّف الأفراد غير الأسوياء تحت ضغط غرائزهم، فإن المصالح الضيفة للدول الساعية إلى مزيد من النفوذ، تتحول إلى ما يشبه غرائز عمياء.

دلالات