لغة دولة الاحتيال ودولة الاحتلال

لغة دولة الاحتيال ودولة الاحتلال

01 فبراير 2019

السيسي وماكرون في مؤتمر صحفي في القاهرة (28/1/2019/فرانس برس)

+ الخط -
في إطار تلك الحجج التي ساقها عبد الفتاح السيسي المنقلب لمواجهة الانتقادات التي تتعلق بحالة حقوق الإنسان في مصر، جاء مؤتمره الصحافي المشترك مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الإثنين الماضي في قصر الاتحادية في القاهرة، كاشفا فاضحا، ليس فقط لحال هذه الحقوق، ولكن لعمليات تدليسٍ كبرى، وتلبيسٍ بشأن مفاهيم أساسية كحقوق الإنسان، ذلك أن الإشارة من الرئيس الفرنسي بشأن حال حقوق الإنسان التي صارت أسوأ مما كانت عليه إبّان عهد المخلوع حسني مبارك، وكذا تصريحاته بشأن التضييق على المجتمع المدني في مصر، ربما أشارت إلى كيف يتعاطى المستبد بالاحتيال على المفهوم، حتى يمرّر ظلمه واستبداده وطغيانه. وعلى الرغم من أن تلك التصريحات قد أشارت إلى سجن صحافيين ومدونين عديدين في مصر، وأنها لم تتطرق إلى حال حقوق الإنسان عامة في طول البلاد وعرضها، ومرفق العدالة الذي صار يتعامل مع هذا الملف الحقوقي باستهانةٍ شديدةٍ، خدمة للمستبد وأهوائه وطغيانه، فإنه قدم مجموعة وسلسلة من ادّعاءات وأكاذيب، حتى يلفق بها رؤيته لحقوق الإنسان النافية كل حق، مستخدما سيلا من المغالطات والتلبيسات حول المفهوم والممارسة.
ومن المؤسف حقا أن يتابع المنقلب سلسلة أكاذيبه، ليؤكد زورا وزيفا أن "الحق في الحياة والأمن وحرية الرأي والتعبير والتنمية هي حقوق توليها مصر (يقصد نظامه الفاشي) أهمية كبيرة، وأنها تولي اهتماما لهذه المبادئ"، إلا أنه، في حقيقة الأمر، بدا له بعد ذلك أنه يبرّر كل انتهاكاته حريات التعبير أو الاحتجاج أو التظاهر، لأن ذلك ليس هو مفهوم "حقوق الإنسان الشامل"، وأنها (حريات التعبير وما شاكلها) ليست وحدها تعبر عن حقوق الإنسان في ظل تلك المقايضة الكريهة والحقيرة بين الحقوق التأسيسية والسياسية من جانب والأمن ومعاش 
الناس من جانب آخر. إنها حيلة المستبد، على الرغم من أنه لا يحقق الأمن بمعناه الإنساني الشامل، ولكنه يخصه بأمن كرسيه، وثبات أركان طغيانه وحكمه، لا الأمن الشامل، فإنْ كنت، يا هذا، تتحدث عن حقوق الإنسان بمعناها الشامل، فإنني ألفتك إلى الأمن بمفهومه الشامل، أمن إنساني يبدأ بالحفاظ على الحياة، لا الاستهانة بالنفوس واستباحتها، وغمط عزّتها وكرامتها، بينما كانت ممارسة المستبد طقسا يوميا من الاختطاف القسري، والقتل خارج إطار القانون، والتصفية الجسدية، والقيام بالاعتقالات والمطاردات، بل وممارسة مجازر جماعية، فضلا عن أجواء كبت للحريات وقمع حرية التعبير خصوصا.
ذلك كله بدعوى أنه سيوفر الأمن، ويوفر العيش والخدمات الأساسية، فهل هو يفعل ذلك حقا؟ أم أنه يحتال بفائض الكلام بفيضٍ من الكذب، فلا هو وفر أمنا أو عيشا أو صحةً أو تعليما، ولا هو أتاح حرية تعبير، ولا ممارسة سياسية ديمقراطية، وقام بكل ما من شأنه إرساء حالة ظلم واسعة، حتى حول مصر إلى سجن كبير.. أتلك هي حقوق الإنسان الشاملة؟ أذلك هو الأمن الكامل؟ أهذا هو الشأن العادل؟ أم أنه يحتال بالكلام، فأطلق غول الغلاء والأسعار على عموم الناس، وقمعهم باستراتيجية التفزيع والترويع، وأعدمهم باستراتيجية الإفقار والتجويع، فلم يحقق من حقوق الإنسان شيئا، إلا من دعاوى تنطلي على الغرب بكلمةٍ شفريةٍ سحرية، تتعلق بمحاربة الإرهاب، حتى أن ماكرون عبّر، في نفاقٍ رخيص، بالكلام الدعائي والإعلاني نفسه، ليقول إن مصر وفرنسا تعرضتا للإرهاب. وعلى لسانه، أكد للسيسي أن أمن مصر واستقرارها مسألة استراتيجية لنا، على حد تعبير ماكرون، مشدّدا على أن الدور الذي يقوم به السيسي في محاربة الارهاب مهم جدا، وأنه لا يقول ما يقول إلا من منطلق الصداقة لمصر، مشددا على أن فرنسا لا تملي على الشعوب مصيرها، مقرنا ذلك بضرورة الصبر، فـ"السيسي رئيس يواجه تحدياتٍ عديدة".
أقول إن هذه اللغة الملونة والباهتة في التعبير عن تلك الانتهاكات الجسيمة إنما هي ناتجة عن ضغوط قامت بها مجموعات فرنسية ضاغطة، ليتخذ مواقف أكثر شدّةً وحدة، فكانت هذه الاستجابة "الماكرونية" ليست إلا ذرا للرماد في العيون، وتغطية على مواقف مصلحية أخرى. وعلى الرغم من هذا الموقف الانتقادي الضعيف، إلا أن عبد الفتاح السيسي المنقلب لم يتحمل ذلك، ودخل في هذا السجال الذي يؤكد في كثير من ثنايا كلامه اعترافا منه بتلك الانتهاكات في الجوانب السياسية والاحتجاجية. وقد أعلن أن مصر لن تنهض بالمدونين، بل بالعمل والجهد. وبعد جهد جهيد يجيب بسؤال المقايضة والمساومة "تسألني عن حق المدونين وأنا أسألك عن كيفية توظيف مليون خريج سنويا.. المدونون يتحدثون لغة ثانية غير الواقع الذي نعيشه".
ها هو المنقلب يعطي لنفسه حق القتل والمواجهة بالسلاح، مدّعيا أنه لا يواجه بالسلاح إلا من رفع السلاح. ومع ذلك، أكدت المؤسسات الحقوقية الدولية غير الحكومية أن تجاوزاتٍ كبرى 
تتم بحق الأهالي في سيناء، وحق المعارضين بدعوى مواجهة العنف، وضمن لغةٍ تفتعل معركةً ليست بالحقيقية، ذلك أن مواجهة المتطرّفين وأصحاب التوجهات العنيفة لا تقارن بما يقوم به من مواجهاتٍ خطيرة، ومن اعتقالاتٍ سياسيةٍ في حق كل معارضٍ يختلف معها، فهل المهندس يحيى حسين عبد الهادي ومعصوم مرزوق ويحيى القزاز، وحتى هؤلاء الذين حاولوا أن يترشّحوا في مواجهته في مسرحية انتخابات هزلية رئاسية زائفة، يستحقون الاعتقال. إنما هي ادعاءات في معظمها، يحاول بها تبرير انتهاكاتٍ وتزييف الحقائق، تحت دعاوى شتى. وحاول من خلال جوقة صحافييه ومنافقيه أن يشكل ضغطا على الرئيس الفرنسي، في محاولةٍ لرده إلى تصريحاته الفائتة التي عبر فيها عن عدم اكتراثه بتوجيه دروسٍ في حقوق الإنسان، بل تحدث بعضهم عن انتهاكاته في مواجهة أصحاب السترات الصفراء. وعلى الرغم من محاولته إفهام معاني حقوق التعبير عن الرأي، وعن الاحتجاج، إلا أنه، على حد تعبير بعض وسائل الإعلام الغربية، كأن الأمر قد سار إلى "حوار الطرشان".
إنما يعبر هذا كله، في حقيقة الأمر، عن الخطاب نفسه، من دولة الانقلاب والاحتيال، ليحاكي خطاب دولة الاغتصاب والاحتلال. كلاهما يحاول أن يقلب الحق باطلا، ويحاول أن يقلب المفاهيم، فيسمي إرهاب الدولة من الكيان الصهيوني دفاعا عن النفس، ويسمّي المقاومة للمحتل والمغتصب إرهابا في حق الكيان الغاصب المصطنع. اللغة نفسها يتحدث بها صاحب الانقلاب ودولة الاحتيال، حينما يتحدّث عن حقوق الإنسان ومفهومه الشامل، والخصوصية والتنوع الذي يشير به إلى الاستبداد، وحقه في ممارسته طغيانه وظلمه وقتله واعتقاله ومطاردته المواطنين في الوطن أشكالا وألوانا من أطياف سياسية مختلفة، لا يجمع بينها إلا المعارضة والمخالفة لهذا النظام الفاشي. وما نراه في حقوق الإنسان نراه في احتيالٍ آخر على الدستور، والمطالبة بتعديلاتٍ دستوريةٍ، حتى يبقى الطاغية على كرسيه آمنا مطمئنا إلى أبد الآبدين. إنها اللغة نفسها من دولة الانقلاب والاحتيال، كما تمارسه دولة الغصب والاحتلال، في مواجهة كل من يقاوم ظلم المستبد المحتال، وغصب العدو المحتل.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".