الآنسة أم كلثوم حينما تغنّي

الآنسة أم كلثوم حينما تغنّي

01 فبراير 2019

رسم لأم كلثوم في حي شعبي بالقاهرة (2/2/2000/فرانس برس)

+ الخط -
أُجيز لهم، قبل نحو عام، في العربية السعودية، أن ينفتحوا، وأنْ يكسروا منع بث أغنياتِ مغنياتٍ، توطّن ثمانية وثلاثين عاما، فدشّنت "القناة الثقافية" التلفزيونية اللحظة التاريخية هذه بأم كلثوم في "من أجل عينيك عشقتُ الهوى". ثم لمّا أراد المخُّ الحاكمُ هناك إبلاغ العالم مضيّه في مسار انفتاحه هذا، والإيحاءَ بعدم انشغاله بأي صخبٍ بشأنه في الخارج، أقام، الشهر الماضي، مهرجانا فنيا كبيرا في بلدةٍ عتيقة، اسمُها طنطورة، واستضاف فيه نجوما من غير بلد، وكان من أهم سهرياته أن تحضر أم كلثوم على المسرح، فتغنّي قدّام المتفرّجين "إنت عمري" وغيرها. أسعفتهم التكنولوجيا في أمرِهم هذا، فثمّة "التصوير التجسيمي" (بالعربية المُفرِطةِ الفصحى) أو "تقنية الهولوغرام"، باسمها الذائع، أي استحضار الشخصية المطلوبة بتمثيلٍ يؤدّيه شخصٌ آخر، معدٌّ لذلك. وهكذا، كانت "قيثارة الشرق" شكلا أمام النّظارة، وكانت أغنياتُها، ولكن بصوت صابرين، المؤدّية المدرَّبة على ذلك في دبي. وتم الأمر، على مسرح مرايا، بعونٍ من الليزر وغيرِه، ثم كتبت إدارة مهرجان شتاء طنطورة إن أم كلثوم حضرت "في رحلةٍ عبر الزمن إلى ماضٍ طالما حلمنا بمعاصرة أصالته". 
كم من مقادير الكلثوميّة كانت حاضرةً في تلك الليلة؟ لا أدري. ولكن قرأنا أن تشويها جسيما جرى لأم كلثوم التي حضرت شبحا سيّئا. عدا عن أن "الست" على المسرح ليست صوتا فقط. وبمناسبة واقعة طنطورة هذه، وذكرى رحيل سيدة الغناء العربي بعد غدٍ (3 فبراير)، طيّبٌ أن يُستعاد شيءٌ مما كتبته أم كلثوم عن وقفتها تغنّي. ما كتبتْه، لا ما قالته أو حكته، فمهمٌّ أن يُعرف أن "كوكب الشرق" كتبت مقالاتٍ منشورةً، وكانت على شيء من الاهتمام بالصحافة صنعةً ومهنة. وعلى ذمّة أحد دارسيها، فإنها (والله أعلم) تزوّجت بعض الوقت، الصحافي مصطفى أمين، والذي غالى في الثناء عليها في قوله إنها "من أساطين الكتابة الصحفية". وجاء جهدا مقدّرا للزميل محمد شعير جمعُه مقالات أم كلثوم في الكتاب الذي أعدّه "مذكرات الآنسة أم كلثوم.. ووثائق أخرى" (كتاب اليوم، القاهرة، عدد فبراير 2018).
تكتب أم كلثوم إبراهيم (هذا توقيعُها) في مقالتها "حينما أغنّي" في "أخبار اليوم" في 25 /11 /1944، عن غنائها وهي طفلة، أنها كانت ترغب بحدوث مشاجرةٍ بين المدعوين أو "أصحاب الفرح" لتتفرّج، وتستريح من عناء المغنى (!).. أما لمّا كبرت وبدأت "تذوّق الفن" (بحسب تعبيرها)، قد يحدُث أن تذهب إلى حفلةٍ، وهي على أتم الاستعداد لها، بمزاجٍ رائق وصحةٍ طيبة، ثم "فلا أكاد أفتح فمي للغناء، حتى أتمنّى لو أخذوا مني كل ما أملك، وعتقوني لوجه الله، ولا أغنّي". وتكتب الآنسة أم كلثوم (لقبُها في الوسط القاهري مبكّرا) أنها في بعض الليالي، قد لا تكون صحتها على ما يُرام، ومزاجُها لا يصلح للغناء، وإنما تذهب لأداء "واجب"، فلا تكاد تفتح فمها، حتى تترقرق دمعةٌ في عينها، .. ثم لا تلبث أن تنسى الناس، وتغنّي لنفسها، "وقد أفتح عيني، وأنظر للجمهور ولكني لا أراه". وتتابع "أتصوّر المكان، وليس فيه أحدٌ سواي، لا أسمع أصوات التصفيق، ولا صيحات الاستحسان، فإذا كرّرتُ مقطعا، فإنما أكرّره لأني أريد ذلك، لا لأن صوتا ارتفع يقول لي "كمان". في مثل هذه اللحظات، أغنّي وأنا أحلم، وتصبح القطعة الغنائية قطعةً من قلبي، فإذا قلتُ "سافر حبيبي"، فإني أتخيّل أن لي حبيبا، وأنه أسلمني للألم والعذاب...". وفي مقطعٍ آخر من المقالة، الفائقة الأهمية، تكتب أم كلثوم إبراهيم، "وفي بعض الليالي، أنتهي من غنائي، وكأنني أنتهي من حلم، فيوقظني تصفيق الجمهور في نهاية المقطوعة، فأحسّ بالرعدة في جسمي، وأشعر شعور النائم، حين يستيقظ بعد حلم رائع، ويتمنّى لو أنه لم يفتح عينيه، وعاش إلى الأبد في ذلك الحلم الجميل".
أما في مقالها "جمهوري"، ونشرته في مجلة الكواكب (غير مؤرّخ في كتاب محمد شعير؟)، فإنها تبدأه بشعورِها بالخوف من الجمهور، في أوائل غنائها، ثم على مرّ الأيام والحفلات، صارت تجد لذةً كبرى في الوقوف أمام الجمهور، ..، و"إنني لأجد متعةً طيبةً في أن أراقب الجمهور الذي يستمع إليّ، وأدرس بعض شخصياته النادرة الطباع، وكأنني أشاهد فيلما مسليا"، ثم ينصرف المقال الرائق في تعيين صفات أنواعٍ من المستمعين بين الجمهور قدّامها..
لم يكن خيال أم كلثوم سيصل، لمّا كتبت مقاليْها البعيديْن، إلى أنها يوما ما ستكون دميةً محشوةً بما لا نعرف، مصنوعةً، وصوتٌ آخر يمثّل صوتَها، أمام جمهورٍ يتوسّل بهجةً.. مصنوعةً أيضا.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.