"أنا الآن فهمتكم" سودانية

"أنا الآن فهمتكم" سودانية

04 يناير 2019
+ الخط -
يذكّر خطاب الرئيس السوداني، عمر البشير، بخطاب الرئيس التونسي المخلوع، زين العابدين بن علي، في ردّه على التظاهرات التي تشهدها بلاده. قال زين: أنا فهمتكم.. وقال عمر: وضعنا خارطة طريق للخروج بالبلاد من الأزمة الاقتصادية.. قال زين: لا رئاسة مدى الحياة.. وقال عمر: هناك انتخابات نزيهة عام 2020. وأيضاً قال زين: ليتكاتف الجميع، أحزاب سياسية، منظمات وطنية، مجتمع مدني، لوقف ما يجري. وناشد عمر المعارضة المشاركة في بناء السودان، وكأن المعارضة يتم تذكّرها وقت الأزمات فقط.
وفي النهاية، تفوق عمر على زين، حيث استلهم من تجارب الدكتاتوريات الأخرى التي لم تكن متوفرة للأول، فرفض المغادرة، واتهم التظاهرات بأنها لـ "أسباب خارجية". في التجارب الأخرى، قيل لنا إن سبب المؤامرة الانتماء إلى محور المقاومة، ولكن عمر لم يخبرنا لماذا وعلى ماذا يتآمر الخارج على نظامه. تم على يديه تقسيم البلاد، وخسر السودان أكثر من ثلث مساحته (انفصال جنوب). وبدل أن يقول "أنا الآن فهمتكم"، ويطير إلى جدة، ذهب إلى التصالح مع نظام الأسد، في أول زيارة يقوم بها رئيس عربي إلى دمشق منذ شتاء 2011. كان الأحرى بعمر أن يتصالح مع شعبه أولا، فهو الأجدر بالحوار والمصالحة.
ليت عمر يقتدي بزين، فيعيش في جدة، ويترك شعبه يعيش. كم هي معطاءة ومسامحة هذه الشعوب العربية، فلم يطالب التونسيون بعودة زين لمحاكمته وإعدامه، ولا حتى المطالبة بالأموال التي نهبها، فقد ترك ليتدبّر أمره، ويشق الشعب التونسي طريقه بنفسه، حيث عملوا على مبدأ "لقاء بمعروف أو فراق بإحسان". تسعة وعشرون عاماً أعطاها الشعب السوداني لعمر من دون مساءلة، أوصل بها البلاد إلى مستوياتٍ قياسيةٍ من الفقر والتشرّد والظلم. والآن قرّر وضع "خريطة طريق" للخروج بالبلاد من أزمتها الاقتصادية، وكأن ربع قرن مضى كان فيه المواطن السوداني يعيش حياةً رغيدة لم تستدع اهتمام الحكومة، أو تكليف نفسها بوضع خريطة طريق، والآن فقط أصبحت هناك حاجة لمثل هذه الخطط.
ليت عمر يقتدي بسلفه المشير سوار الذهب رحمه الله الذي خلص السودان من دكتاتورية فاسدة، ويتنازل عن الحكم بمحض إرادته، من دون أن يُعدم أو يعتقل. ترك سوار الذهب القرار 
لشعبه، وصان كرامة السوداني، بعدم فرض نفسه عليه، فلا داعي لعمر أن يستخلص الدروس من زعيم دولةٍ أخرى كزين، فهناك بين شعبه ووطنه دروسٌ كثيرة، يمكنه أن يستلهمها.
ليت المواطن السوداني هو الآخر يستلهم الدروس من محيطه العربي، فلا يحاول "إعادة اكتشاف العجلة"، ويبني على ما تم استنتاجه من ثورات الشعوب العربي. لقد عشعشت في الذاكرة السياسية العربية، والفلسطينية خصوصا، ما عرفت تاريخياً "لاءات الخرطوم الثلاث"، وحان الوقت للمواطن السوداني أن يستلهم لاءاته الثلاث من تجارب إخوته العرب. أولاً، لا استخدام للعنف في المظاهرات المتواصلة في أرجاء الوطن، مهما بلغ استفزاز النظام وبطشه. ثانياً، لا سماح لناس داعش وأخواته بالولوج في المسيرات، واختطاف المطالب الشرعية والمحقّة للمواطن السوداني. ثالثاً، لا اعتماد على العامل الخارجي، مهما بلغت الإغراءات، وخصوصاً الإدارة الأميركية، فلهم في الكرد في شمال سورية عبرة.
قال زين في خطابه: "لن أقبل أن تسيل قطرة دم واحدة من دماء التونسيين"، ثم مضى. لكن الدماء للأسف سالت على أرض السودان، وما زال عمر جالساً، ويتحدّث عن انتخاباتٍ نزيهة، ومشاركة المعارضة بالبناء، وخطة طريق للخروج من الأزمة الاقتصادية. أخيراً، ردّد زين: "أولادنا اليوم بالدار ومش بالمدرسة وهذا حرام وعيب". لكن يبدو أن عمر لا يعرف لا العيب ولا الحرام. هرمنا.
72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
إبراهيم فريحات

أكاديمي وباحث فلسطيني، رئيس برنامج إدارة النزاعات في معهد الدوحة للدراسات العليا.

إبراهيم فريحات