أمس العالم العربي وغدُه

أمس العالم العربي وغدُه

30 يناير 2019
+ الخط -
كتب يسألني: كيف ترى صورة العالم العربي اليوم مقارنةً بما كانت عليه قبل نصف قرن؟ 
لم يعد مصطلح "العالم العربي" يخبئ لنا غير الوهم والفشل، وانهياراتٍ متلاحقةٍ نواجهها كل يوم. قبل نصف قرن، كانت الصورة أفضل. كان هناك حال من التماسك والتضامن بين أقطار الأمة، وإنْ في الحد الأدنى. في حينها، كنا نرى ثلاث دول رئيسية شكلت مراكز قوة وتأثير، مصر والسعودية والعراق، فيما كانت الأقطار العربية الأخرى تدور في فلك إحداها على نحو أو آخر، وكان للأقطار العربية منفردةً، أو مجتمعة، تأثيرها في المحيطين، الإقليمي والدولي، حتى عندما كانت تتوافق في ما بينها أو تختلف على وقع التقاء سياساتها وتوجهاتها أو اختلافهما.
لكي نرى الصورة أكثر وضوحا، دعونا نستقرئ الأعوام الخمسين التي يشير إليها السائل. إبّانها عرفنا أربعة مشاريع كانت تتصارع في محيط الشرق الأوسط: الصهيوني الذي يعمل على ترسيخ بناء الدولة العبرية، والتخطيط لالتهام أجزاء أخرى من الأرض العربية. والإيراني الذي يريد إعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية، متلفعا بغطاء المذهب. والتركي الذي يبغي التمدّد مستعينا بروايات التاريخ. وأخيرا المشروع العربي الذي قال به الرواد الأوائل الذين بشروا بوحدة الوطن وحرية المواطن.
ولكن عندما دارت الدنيا، لم تبق الأمور على حالها. ضعفت الدول العربية الرئيسية الثلاث، وانعدمت فاعليتها بفعل عوامل عديدة، ففي حال العراق، مثل الغزو الأميركي للبلاد أكبر ضربةٍ له منذ الاحتلال البريطاني أوائل القرن الراحل، أفقدته قوته وتأثيره، بعدما وجد الأميركيون في أخطاء الرئيس الراحل صدام حسين وخطاياه المبرّر لإسقاط نظامه السياسي، واستباحة أرضه، ونهب ثرواته، وتنصيب بعض أعوانهم عليه. وما يزال رهان القوى المعادية على تقسيمه وتشظّيه قائما.
كفّت مصر، هي الأخرى، عن أن تكون مركز تأثير، بعدما فقدت كثيرا من نفوذها المعنوي في الشارع العربي والمحيط الدولي، إثر الانهيارات التي عاشتها، والتي كان جديدها فشل التجربة الديمقراطية فيها، وتصاعد هيمنة العسكرتاريا وسيطرتها على مقاليد السلطة والقرار، وخضوعها للإملاءات الأميركية والصهيونية. أما السعودية فقد تراجع فعلها هي الأخرى، وخسرت كثيرا من أوراقها، خصوصا بعد التطورات التي شهدتها جرّاء تخبطات ولي العهد محمد بن سلمان الذي قايض ربط بلاده بالمشروع الصهيوني مقابل حماية الولايات المتحدة له، وضمان بقائه في القمة. 
في موازاة هذه الانهيارات المتلاحقة في مراكز القوة العربية، تعرّض المشروع العربي النهضوي لانتكاسةٍ مريعةٍ، ارتبطت بداياتها بعملية غزو الكويت التي نقلت العالم العربي إلى حالة انعدام الوزن، وأفقدته طابعه الحراكي. وقد ننتظر عقودا قبل أن تأتي فرصةٌ أمام أحفادنا لبعث الروح مجدّدا فيه.
في هذه الغضون، تصاعد حراك المشاريع الثلاثة الأخرى على نحو لافت. وجد الإيرانيون
موطئ قدم لهم في العراق، إثر سقوط نظام صدام حسين، ونجاحهم في الهيمنة بشكل كامل على القرار العراقي، ما فسح لهم المجال للدخول في الإقليم لاعبا ماهرا في سياساته، وحتى في تشكيل حكوماته. وحقق الأتراك تقدما مرصودا، ظهر واضحا في العراق وسورية، وهم في وارد التوغل أكثر في الإقليم. أما الإسرائيليون فقد كانوا الأكثر نشاطا وفاعليةً وقوةً، بسبب المكانة التي باتت إسرائيل تحتلها في المحيطين، الدولي والإقليمي، إثر انهيارات العالم العربي، وتراجعات أنظمته. وقد سجلت في الربع الأول من القرن الجديد نجاحاتٌ في مجال سعيها إلى التوسع على حساب العرب، وإسقاط القضية الفلسطينية من الأجندتين، الإقليمية والدولية، من خلال الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لها، وطرح "صفقة القرن" التي يُراد منها أن تدقّ المسمار الأخير في نعش المسألة الفلسطينية، وكذلك في اختراق البنية العربية والعمل الحثيث على تأسيس علاقاتٍ طبيعيةٍ مع معظم أقطار العالم العربي.
نصل هنا إلى ثلاث حقائق رئيسية لا بد من الاعتراف بها، وإنْ كانت مرّة، أن العالم العربي يتعرّض للهزيمة والخذلان على نحوٍ مريع، وقد أصبح مشروعه القومي في خبر كان. وأن المشروع الإيراني يتقدّم على الأرض نتيجة طبيعية لفشلنا في إدارة أزماتنا وتدبر أمورنا، والحقيقة الثالثة، وهي الأخطر، أن الدولة الصهيونية أخذت فرصتها في تحقيق أهدافها في التوسع والسيطرة والتحكم بنا، كما تبغي وتريد، في غياب أي مواجهةٍ حقيقية منا.
بعد هذا، ألا يحق لي أن أقول لك إن صورة العالم العربي قبل خمسين عاما كانت أفضل؟
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"