لم تمُتْ تلك الرائحة

لم تمُتْ تلك الرائحة

29 يناير 2019
+ الخط -
مرّت تلك الأيام الباردة العاصفة، وعاد شتاءُ بيروت حنوناً، رؤوفاً، بسمائه الزرقاء وشمسه المتقّدة ونسماته المسائية الباردة التي لا تمنعك من الخروج أو من الجلوس على الشرفات لوداع الأشعة البرتقالية. عاد شتاؤنا رحيمًا، لكنه أعاد معه تلك الرائحة التي اعتقدنا أننا دفنّاها إلى غير رجعة، وقد أثارت فينا ما أثارته من استياءٍ واستنكارٍ وإحساسٍ بالذلّ، ورغبة في التمرّد والنزول إلى الشارع، لمعرفتنا، وهو ما لم يعد سرّا منذ فترة وما عاد يخفى على أحد، أنها هنا لأنّ ثمّة من ينتفع منها في حسابات تقاسم أرباح نفايات "يتناتشها" السياسيّون والزعماء، مدّعين أنهم إنما يبحثون لها عن حلّ. وإذ بدأت تلوح نسائمُها علينا، فهبّت بعد الشتوة السخيّة، وقد امتلأت عصارتُها ماءً فتسلّمتها أشعّةُ الشمس القويّة، كي تعمل على اختمارها، فتحلّلها، ففوحان شذاها في فضاء المدينة التي، منذ ركعتْ عجزا وتخريبا وإذلالا، لم تنهض على قدميها بعد.
نَغُضُّ النظرَ، ونسدّ أنوفَنا، ونكمل سيرَنا، فنحن قد أصبحنا ما بعد اليأس بكثير، في حالة شللٍ دماغيّ، أو في حالة وعيٍ تام أننا، نحن أنفسنا، أكثر فسادا وخرابا من أن يتمّ إصلاحنا، بدليل مَن جئنا بهم في الانتخابات الأخيرة، على الرغم من درايتنا التامّة بأفعالهم الكارثيّة ونواياهم المزغولة ووعودهم الكاذبة. جئنا بهم في ما يشبه أعراضا أخيرة لمرضٍ ينتشر بسرعة وباءٍ لا شفاء منه، ولا عقاقير تخفّف من شروخه.
يعِدوننا بعودة النفايات إلى طرقاتنا، وتتسابق نشراتُ الأخبار على إعلامنا بوصول مطمريْ برج حمّود والجديدة والكوستا برافا إلى حدودها القصوى من الاستيعاب، كما هي حال مكبّات أخرى، أقفلت أبوابَها منذ حين، فيما يهدّدنا بعضُهم باعتماد المحارق التي يدركون، وندرك سلفا، أنها ستنشر في ما تبقّى من أجسادنا وأجساد أطفالنا السليمة، سرطاناتٍ على أنواعها، رفعتْ مرتبةَ بلدنا الجميل إلى المراتب الأولى ضمن البلدان الأكثر إصابةً بالسرطان. كنّا قد سمعنا عن خططٍ لتوسيع مطامر لنصف نفايات بيروت والجبل، ثم انقضت المهل، ولم يحصل أي توسيع. ثم سمعنا عن إطلاق مناقصاتٍ للمحارق، مع تعيين مواضعها، وهذا أيضا لم يتمّ. نحن حاليا في حالة ضياعٍ تام، ولا أحد يدري ما هي خطط المسؤولين، أو نواياهم في حكومة تصريف الأعمال الحالية، أو في الحكومة المقبلة إذا ما أقبلت، أو إن كانوا في الأصل يملكون فعلا أية خطة بديلة.
في التراجيديات الإغريقية القديمة، كانوا يحكون عن أسوارٍ تُرفع وأبوابٍ تقفل، عندما يضرب المدينةَ الطاعونُ، ويفتك بأبنائها. لنقلها إذًا بكل صراحة ووضوح: بيروت مدينة مصابة بالطاعون، وعلى أهلها أن يُقفلوا أبوابهم ونوافذهم، وأن يمتنعوا عن الخروج. ينبغي لحكومةٍ ليست حكومتنا أن تُعلن حالةَ الطوارئ، وتقرّ حظرَ الدخول أو الخروج مِن وإلى موانئنا ومرافئنا، وأن نصبح شعبا موضوعًا كلّه تحت الحجر الصحّي. وكما كانت تحاصَر المدنُ المذنبة الأثيمة، فلنحاصَر نحن أيضا حتى تُزهق أرواحُنا تجويعًا واعتلالًا وخنقًا، لأننا فعلنا بنا ما لا يفعله عدوٌّ بعدوّه، وبلغنا في إجرامنا بحقّ أنفسنا حدودًا لا تطاق.
وكما ينهار نجمٌ على ذاته مخلّفا وراءه ثقبًا أسود، فلتُدَك أبنيتُنا وعماراتنا، لتُمح ذاكرتُنا، وأسماؤنا، ولتُطفأ قلوبُنا وعيوننا كما تطفأ قناديلُ خنقها الشحمُ المحروق والسُخام. فنحن أوْلى بالعتمة، وأجدرُ بالموات، وأحقُّ بالهوان والخزي، ونحن أهلٌ لأسوأ ما قد يُعامَل به شعبٌ غادرٌ أفّاق. فلتُشعَل لنا المحارق، وتعلّق المشانق، وتوسّع المقابر، ولتَـنُـحِ الأمهّاتُ الثكالى، وتتأهّب النادباتُ وغسّالو الجثامين.
الرائحة عائدة، والنفايات ستبلغ نوافذَنا وسيُقال: ههنا، في هذا المكبّ الكونيّ، كان ثمّة أهال ومواطنون كانوا في أغلبيتهم من الجُناة. لا، لم تمت تلك الرائحة، بل نحن من نموت.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"