قرار حمساوي صائب

قرار حمساوي صائب

29 يناير 2019
+ الخط -
القرار المفاجئ من حركة حماس، رفض الدفعة الثالثة من المساعدات المالية القطرية، على خلفية الابتزاز الإسرائيلي المتكرّر، كان قراراً سياسياً صائباً من جميع الوجوه، حيث لم ينتقص من مكانة قطر وسخائها المقدّر في قطاع غزة المحاصر، أو كان محل تحفظ لدى من درجوا على انتقادها طويلاً في السنوات السابقة، بمن فيهم مُنشئ هذه السطور، والذي لم يتوقف عن ذلك منذ انقلابها على نفسها عام 2007، وإحداثها نكبةً جديدةً في قلب النكبة الفلسطينية القديمة. 
وأحسب أن هذا القرار غير المتوقع على الإطلاق فاجأ "حماس" نفسها، أو على الأقل جيش موظفيها، قبل أن يشكل مفاجأة للجميع من دون استثناء، سيما إسرائيل التي أخذت صحافتها تسأل استخباراتها عن عدم توقع مثل هذا القرار المؤسّس لمرحلة جديدة في المواجهة مع القطاع، فضلاً عن السلطة الفلسطينية وبقية الفصائل والرأي العام، الأمر الذي يضاعف من الأهمية السياسية لهذا الموقف، المتّخذ في أصعب الأوقات، وتحت أسوأ الظروف المعيشية لمليوني غزّي.
لم يكن القرار المرحّب به على أوسع نطاق سهلاً على قيادة "حماس" التي تدرك، أكثر من غيرها، تبعات رفض مبلغ هي في أمسّ الحاجة إليه، وتعي أن بدائلها المالية، الشحيحة أصلاً، تكاد تكون معدومة، وأن خياراتها المتاحة على هذا الصعيد لا تفي حقاً بمتطلبات إدارة سلطةٍ تعيش في ضائقةٍ مزمنة، وذلك من خلال الجباية، وفرض مزيدٍ من الضرائب والرسوم على سكان فقراء هدّهم الحصار المديد، ونالت من مقومات بقائهم سلسلة من الحروب.
غير أنه، في مقابل هذه الحقائق القاسية، كان على سلطةٍ، ذات خطاب مقاومةٍ جذري لا يهادن أن توازن بين استحقاق إدامة حكمها بكل ثمنٍ وتحمّل ضغوط شعبية ثقيلة، راحت تتهم "حماس" بالتخلي عن المبادئ، وبالخضوع للإملاءات الإسرائيلية، وتقبل المال مقابل الهدوء، إلى الحد الذي اتهم فيه بعضُهم الحركة المجاهدة بأنها تتاجر بدماء الشهداء، ولا تتحسّب لمضاعفات رهن تكتيكاتها، لا سيما في موضوع مسيرات العودة، لمزاج إسرائيلي شديد السادية تجاه كل الفلسطينيين.
وعليه، فقد كان على قيادة "حماس" المأزومة أن تُقدّم الاعتبارات السياسية بعيدة المدى على المكتسبات الآنية، المعلقة على حسن نوايا احتلالٍ مثقلٍ بسوء النية تجاه الصابرين الصامدين المقاومين في فلسطين، وأن تنال، في مقابل رفض الابتزاز الوقح، كامل التقدير والاحترام، بل وأن تُسقط دفعة واحدة كل ما علق بها من اتهاماتٍ صعبة، مثل قبول الرشوة المالية، لخفض زخم مسيرات العودة على السياج، والإذعان لمشيئة نتنياهو بضبط النفس، لقاء السماح بعبور دفعةٍ أخرى من المال.
ومع أن كلفة هذا القرار المبدئي الصحيح تتعدّى مسألة التمويل في حد ذاته، لتصل إلى تهيئة المناخ أكثر فأكثر لعدوان جديد. وقد فتح الباب أوسع من قبل أمام مواجهةٍ لا تريدها "حماس"، إلا أن العوائد السياسية الفورية لهذا القرار الشجاع جاءت بالجملة من دون انتظار، في مقدمتها التحرّر من الاتهامات، صحيحةً كانت أم زائفة، وسحب ورقة ضغط استخدمتها حكومة نتنياهو ببشاعةٍ ضد كبرياء أهل القطاع، وإنهاء سياسة الإذلال لشعبٍ تعلو كرامته الوطنية فوق كل اعتبار. إذ كان من غير المفهوم أن تقدّم "حماس" التي لا تعرف المساومة والحلول الوسط في نزاعها الداخلي مع السلطة الوطنية كل هذه التنازلات الفادحة لاحتلال غاشم، بما في ذلك تنسيق أمنى واقعي على السياج، يُحاكي الحالة السائدة في الضفة الغربية، لقاء الحفاظ على سلطةٍ محاصرةٍ ومفلسة، لا تحوز اعترافاً، وليس لها مستقبلٌ خارج الفضاء السياسي الفلسطيني الجامع، مهما طال العناد.
وهكذا، يبدو قرار "حماس" الرافض إدخال المساعدات المالية وفق اشتراطاتٍ أمنية إسرائيلية مهينة، قراراً مستحقاً لا مفرّ منه، كبرت به، واستعادت فيه الحركة المتخبطة صوابها السياسي، وهو ما أهّلها أكثر مما كانت عليه بالأمس، أيام الرهان على متغيراتٍ ليست تحت اليد، لتغليب المصالح الوطنية العليا على المصلحة الذاتية المؤقتة، وربما العودة إلى درب المصالحة.

دلالات

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي