من عوائق الإصلاح في المغرب

من عوائق الإصلاح في المغرب

28 يناير 2019
+ الخط -
يعتبر فاعلون سياسيون واقتصاديون في المغرب، ومعهم صناع القرار، أن الممارسة الديمقراطية في البلاد حققت تراكما مهما، وأن بناء المؤسسات وإرساء الحكامة والشفافية ومحاربة الفساد والرشوة أصبح رهانا استراتيجيا في إطار إرساء دعائم دولة القانون واحترام المقتضيات الدستورية. وكلما صدر تقرير من منظمة أو مؤسسة دولية بشأن أوضاع الحريات وممارستها، ومدى احترام حقوق الإنسان بمفهومها الشاسع، إلا وتساءل المسؤولون المغاربة عن مصدر هذه المفارقة التي لا تخفي تشكيكهم في المعايير والمعطيات التي تستند إليها تلك التقارير، لتقييم أداء عدد من القطاعات والمؤسسات، بل هناك من لا يتردّد في الحديث عن مؤامرةٍ تسعى إلى النيْل من التجربة المغربية التي حسمت في تبنّي الاختيار الديمقراطي، وكل ما يتفرع عنه من حقوقٍ ومكتسباتٍ وواجباتٍ وتعاقداتٍ وعلاقاتٍ وقيم جديدة. غير أن الواقع يعلو ولا يُعلى عليه، وما يحبل به من تناقضات وهشاشة وخصاص وترسباتٍ وكوابح وصراعات، يقف سدا منيعا وحاجزا سميكا في وجه مختلف السياسات والاختيارات التي لا تأخذ حقائق هذا الواقع في الاعتبار. كما أن ما يمكن أن يشكل، بالنسبة للداخل المغربي، أمرا منتهيا ومحسوما فيه، ومصدر اعتزاز وافتخار، فإنه يمكن أن ينظر إليه ملاحظون دوليون بأنه يشكو من نقائص وثغرات. 
من هذه الزاوية، انتهت سنة 2018 بحصيلةٍ غير سارّةٍ للمغرب، حيث لم يسجّل تحسّنٌ ملموسٌ في مؤشر الديمقراطية العالمي، الصادر عن وحدة "دي إيكونوميست إنتليجنس"، التابعة لمجموعة "ذي إيكونوميست" البريطانية؛ إذ حل في المرتبة الثانية عربياً والمائة عالمياً من أصل 167 بلداً شملها التقرير. وهو ما شكل خيبة أمل للحكومة المغربية بصورة خاصة، كونها تسوق خطابا واثقا من نفسه بخصوص تحسين مناخ الممارسة الديمقراطية والشفافية 
الاقتصادية والحريات العامة والفردية، وتوسيع مجال المشاركة السياسية، علما أن التقرير يستند إلى 60 مؤشرا ترتكز أساسا على خمس فئات رئيسية: العملية الانتخابية والتعددية، والأداء الحكومي، والمشاركة السياسية، والثقافة السياسية، والحريات المدنية. ويصنف أنظمة الحكم: ذات ديمقراطية كاملة، وذات ديمقراطية معيبة، وذات ديمقراطية هجينة، وذات ديمقراطية استبدادية.
وحصل المغرب على تنقيط 4.99 (من صفر إلى 10)، وهو ما وضعه في خانة "الأنظمة الهجينة"؛ ما يعني أن النظام السياسي يعتمد إجراء انتخابات باعتبارها أحد مظاهر الديمقراطية، ولكن مع استمرار ممارسات سلطوية. وهذا ما فجر نقاشا قويا عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ومختلف المنابر الإعلامية. وتساءل نشطاء من شتى المرجعيات عن سبب هذا الجمود الذي يحكم التجربة الديمقراطية المغربية، ويحد من أن يتحول المغرب إلى نموذج مقنع يمكن الاقتداء به في المنطقة.
وفي مؤشر الانتخابات والتعددية السياسية، حصل المغرب على تنقيط بلغ 5.25 من أصل 10 نقاط. وفي الأداء الحكومي أقل من المتوسط بـ4.64 نقاط، و5.00 في المشاركة السياسية، و5.36 في الثقافة السياسية، و4.41 في الحريات المدنية. وأفاد التقرير بأن نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية في 2016 كانت أقل من 50%، وأن "النخب السياسية والاقتصادية تواجه تحدّيا في المغرب، مرتبطا بموجة الاستياء التي تعم البلاد، بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، والتي تفاقمت نتيجة حملة مقاطعة المواطنين منتجات استهلاكية عديدة". وتطرّق "مؤشر الديمقراطية" إلى الخطوات التي قام بها الملك محمد السادس، أخيرا، لمعالجة تظلمات الشارع المغربي، بمنحه عفوا ملكيا في أغسطس/آب 2018 شمل أكثر من 180 شخصا، تم اعتقالهم في إطار الاحتجاجات التي عرفتها منطقة الريف.
وعلى الرغم من انتقاد ملك البلاد النموذج التنموي المعتمد منذ عقود، ودعوته إلى مراجعةٍ جذرية لهذا النموذج، فإن وحدة "دي إيكونوميست إنتليجنس" لا تتوقع أن تتم معالجة الأسباب الرئيسية وراء الاضطرابات في الفترة الحالية، من قبيل التداخل بين السياسي والتجاري، وعدم المساواة على نطاق واسع. وحسب التقرير، فإن "المغرب وليبيا واليمن في سنة 2018 من بين الدول التي شهدت تدهورا في أداء الديمقراطية؛ بينما سجلت تونس تحسنا".
مؤكّد أنه يستحيل أن تكون هناك ديمقراطية أو حداثة خارج إحداث سلسلة من القطائع الضرورية، تشمل كل الميادين، كما أن تحسين مؤشر الجودة في المجال السياسي، والتقدم على طريق البناء الديمقراطي، والرقي الاجتماعي والتطور الاقتصادي وانتعاش الحريات، لا يمكن أن يتحقق إلا بنظام تعليمي وتربوي ناجع وقوي، لأن المجتمعات التي قطعت أشواطا مهمة، وسوّت جملة من المشكلات والمعضلات، هي التي أولت أهمية خاصة وعناية مركّزة للتربية والتعليم، مثل اليابان وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة وكندا وماليزيا وإندونيسيا والدول الاسكندنافية وفرنسا وغيرها، علما أن كل الوصفات التي قدمت عقودا لإصلاح قطاع التربية والتعليم في المغرب ظلت تحوم حول إيجاد حلول لإشكالية التشغيل، عبر ملاءمة مناهج التدريس لسوق الشغل وحاجيات المقاولات. ولم تنطلق هذه المقاربة من تصوّر أو مفهومٍ للإصلاح يتجاوز المستوى التقني والحلول الظرفية، لأن ما يطرح اليوم هو ضرورة استناد الإصلاح إلى تصور ومشروع مجتمعي، حتى لا يظل هذا القطاع الحيوي، والحساس جدا، سجين ما سمّاها عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو "طقوس الإصلاح"، في وقتٍ تتفاقم الأعطاب والاختلالات ومظاهر الإفلاس، وتنتشر فيه سلوكات سلبية، من قبيل الغش والعزوف والإعراض عن الاجتهاد والمثابرة، وعدم الثقة في المؤسسات، بما فيها التربوية والسياسية.
ومن الإشكالات التي تواجه المغرب في هذا المضمار، خصوصا على الصعيد السياسي، ظاهرة عزوف الشباب عن الانخراط في العمل السياسي، إلى درجةٍ صار كل الفاعلين يعترفون بهذه الظاهرة، دولة وأحزابا، ويقرّون باستفحالها، ما جعل المهتمين يطرحون أسئلة مختلفة بشأن الأسباب المباشرة وراءها، وما دفعهم أيضا إلى الانكباب على بلورة بعض الحلول التي يمكن أن تحد من التأثيرات السلبية للظاهرة. ومن حين إلى آخر، يقوم باحثون ومهتمون بالشأن السياسي المغربي، بإنجاز استطلاعات رأيٍ بين صفوف الشباب، لمعرفة المسافة التي تفصل بين الشباب والعمل السياسي. وقبل سنواتٍ، أفادت دراسة ميدانية بالفرنسية نشرت في كتاب "مغرب الشباب"، أنجزها الاقتصادي والرئيس الحالي لمجلس المنافسة، إدريس الكراوي، 
والباحث في الفلسفة، نور الدين أفاية، بأن 61% من الشباب المغربي يحمل صورة سلبية عن العمل الحزبي. وينظر شباب مغربي كثيرون إلى الأحزاب السياسية نظرةً مبطنةً باليأس وفقدان الثقة، في وقتٍ فتح فيه المغرب أوراشا عديدة، تهم الإصلاح السياسي، وتوسيع حرية التعبير والرأي، وحقن الاقتصاد المغربي بجرعاتٍ إضافيةٍ من الإصلاح والتأهيل، ما يعني المراهنة على الشباب باعتبارهم طاقة مجدّدة ومتجدّدة، تدفع قاطرة التنمية والإصلاح نحو بر الأمان. ولكن هذا الرهان يصطدم بعزوف فئاتٍ عريضةٍ من الشباب في التنظيمات والمؤسسات السياسية القائمة في المغرب، مفضلين الانخراط في العمل الجمعوي فضاءً بديلا عن الأحزاب التي يرى شباب كثيرون أنها لا تتوفر على برامج ومشاريع سياسية واجتماعية واقتصادية حقيقية، تغريهم بالانخراط فيها، كما أن شبابا كثيرين يرون في الأحزاب مجرد "دكاكين انتخابية"، وأن قواعدها لا تعدو أن تكون مجرد خزان انتخابي.
وعلى الرغم من أن البحث أنجز قبل سنوات، حيث كان من المفروض أن تحقق الدولة والحكومة إنجازات كبيرة، لتسويق صورة إيجابية عن المؤسسات والممارسة السياسية، بما في ذلك تقديم واقتراح عروض ومشاريع ذات مصداقية على فئة الشباب، إلا أن الثقة في السياسة والسياسيين تراجعت بكيفيةٍ مخيفةٍ، خصوصا في ظل تحوّل منصات التواصل الاجتماعي إلى فضاءاتٍ لامتهان المعارضة والرفض، والتعبير عن مشاعر السخط والتذمر. كما أن الهوة ازدادت اتساعا بين الشباب والمؤسسات التمثيلية والوسيطة، على المستويين، الوطني والمحلي.
غياب القدوة أو النموذج في مختلف المجالات، بما في ذلك المجال السياسي، وهيمنة الخطاب الشعبوي وصعود جيل من القيادات التي تفتقد إلى الرصانة والتعقل والعمق ومنطق التوازنات والمصلحة العامة، وممارسة السياسة بدون أخلاقيات، وتحويل هذه الممارسة إلى وسيلةٍ للثراء السريع، عوامل، من بين أخرى، ساهمت في نسج صورةٍ سلبيةٍ موغلة في السوداوية، ترسّخت في اذهان شرائح واسعة من المغاربة، خصوصا الشباب، عن السياسة ومؤسسات الوساطة وعن الفاعلين السياسيين.