مراجعات في مرآة ثورة يناير

مراجعات في مرآة ثورة يناير

28 يناير 2019
+ الخط -
لا يجب أن يكون الحديث عن الذكرى السنوية لثورة يناير في مصر بمنطق النوستالجيا الحزينة، واعتبارها لحظةً رومانسيةً عابرةً يحنّ فيها بعضهم لذكرى أيام خالدة خرج فيها الشعب لإسقاط النظام فأسقطه. ولا يجب أن يتحول هذا الحدث التاريخي، وهو بالفعل كذلك بحكم طبيعته وأثره محلياً وإقليمياً ودولياً، إلى "ملطمة"، أو لحظة "هجائية" يتبادل فيها "الثوّار" الاتهامات بالمسؤولية عن فشل الثورة وما آلت إليه الأوضاع منذ ذلك الوقت وحتى الآن، وذلك بطريقةٍ صبيانيةٍ مراهقة، تضيّع ما أنجزته الثورة خلال أيامها الثمانية عشر، وما حفرته في نفوس الكثيرين، وما ستتركه في الذاكرة الجماعية للوطن. وإنما، يجب أن تكون ذكرى الثورة مرآة ينظر فيها كل من شارك في الثورة، سواء حضوراً أو غياباً، لنفسه، ومناسبة يقيّم فيها أفكاره وقراراته التي اتخذها منذ ذلك الوقت. وأن يخرج منها بدروس وعبَر تساعده في معرفة موضع أقدامه وخطواته المقبلة، فالثورة سقطت، ولكننا لا نزال أحياء. 
شخصياً، تمرّ عليّ ذكرى الثورة كل عام، فأقلب في مواقفي وقراراتي وخطواتي التي اتخذتها منذ ذلك الحين، فأصل إلى ما يلي:
أولاً: كان خطأ جسيماً أنني لم أشارك في الثورة بجسدي، وأن أعيش تجربتها في الميادين والشوارع التي انطلقت منها، وأن أكون وسط شبابها وثوّارها، فقد كنت عند قيام الثورة في بريطانيا لاستكمال دراسة الدكتوراه. وكنت قد تركت مصر قبل الثورة بأسبوعين فقط بعد زيارة قصيرة التقيت فيها، مصادفةً ومن دون تنسيق مسبق، مع أصدقاء لعبوا دوراً محورياً في الثورة، وأصبحوا نجومها في ما بعد! ولكنني شاركت بالثورة عن بعد، عبر التعليق على أحداثها في الإعلامين العربي والغربي. وأتذكر جيداً حين استضافتني قناة الجزيرة في ليلة "جمعة الغضب" في 28 من يناير/ كانون الثاني 2011، وقلت وقتها إن نظام حسني مبارك قد سقط وانتهى، بعد التعاطي العنيف لقوات الأمن مع المتظاهرين، وازدياد سقوط شهداء الثورة. وقتها اتصل بي أحد الأصدقاء، (أو هكذا كان)، ممن كان لهم حضور إعلامي 
وأكاديمي قبل الثورة، معاتباً لي على ما قلته، ومحذّراً من أنه قد يتسبب في منعي من العودة إلى مصر، وكان ردي معه حاسماً بأننا إزاء ثورة، وليس مجرد انتفاضة، وأن الصمت الآن هو خيانة وجريمة كبرى للمثقف الذي لا يجب أن يكون خانعاً في هذه اللحظات التاريخية، وأن يكون "صوت من لا صوت لهم". أما الطريف فهو أن هذا الشخص اتصل بي بعد أيام قليلة كي يقنعني بالالتحاق بما سُمي وقتها "لجنة الحكماء" التي سعت إلى التفاوض على مطالب الثورة وأرواح الثوّار، فكان الرفض القاطع ردّي عليه، قائلاً له إن "الحكماء هم من يقودون الثورة في الميدان، وعلى النظام أن يستمع ويستجيب لمطالبهم".
ثانياً، كان قراراً سليماً تماماً أنني لم أنتم لأيٍّ من الأحزاب التي ظهرت بعد الثورة، على الرغم من دعوات كثيرة جاءتني. فقد كان رأيي، ولا يزال، إن دور المثقف الحقيقي هو الانحياز الدائم للشعب، أو بالأحرى لمطالبه في حياةٍ حرّةٍ وعادلةٍ وكريمة، بعيداً عن التحزّب والتخندق في حزبٍ أو جماعةٍ أو حركةٍ لها مصالح ومطامح قد تتعارض مع مطالب الشعب. لا يعني هذا، بالطبع، أنه لا توجد أحزاب وجماعات وحركات كانت تتبنّى مطالب الشعب، ولكن حسابات السياسة في وقت ما قد تأتي على حساب هذه المطالب. وقد اتضحت صحة هذا القرار بعد ذلك عندما سقطت أحزاب وجماعات وحركات كثيرة في استقطابات وانقسامات إيديولوجية وهوياتية وسياسية، دفعت الثورة، ولا تزال، ثمناً غالياً لها.
ثالثاً، كان خطأ جسيما أنني وثقْت، وبقدر كبير من السذاجة، كما هي الحال ربما مع آخرين، في وعود العسكر الذين استولوا على السلطة بعد سقوط مبارك، وصدّقت أنهم سوف يقودون عملية انتقال ديمقراطي حقيقية وناجحة، وأنهم لن يضيّعوا الثورة، بل سيحافظون عليها. وكنت، من فرط السذاجة، أدافع عن مواقفهم من الثورة، ومن أداء أحد أعضاء المجلس العسكري، التحية العسكرية لشهداء الثورة، وأراهم مختلفين عن العسكر في البلدان الأخرى. وكان لي صديق جزائري يدرس معنا الدكتوراه، يستغرب موقفي، محذّراً من مغبة الثقة بالعسكر، والانخداع بوعودهم، ومؤكداً أنهم آخر من يمكن ائتمانهم على ثورات الشعوب. وكان دائما يذكّرني بما حدث في الجزائر حين انقلب الجنرالات على أول تجربة ديمقراطية حقيقية هناك أوائل التسعينيات، فكان ردّي دوماً بالعكس، وأن عسكر مصر مختلفون!!
رابعاً، كان قراراً سليماً تماماً أنني رفضت الوقوع في فخ الاستقطاب الهوياتي عند التصويت على التعديلات الدستورية الأولى في 19 مارس/ آذار 2011، وقاطعت التصويت عليها بسبب عمليات التعبئة والحشد الهوياتي التي أطلقها مشايخ السلفية، وانزلقت إليها شخصيات ورموز سياسية وثورية، من دون الاحتراز لتداعيات ذلك على تجربة الانتقال الديمقراطي الوليدة. صحيح أنني كنت مع خيار إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، قبل تشكيل جمعية لكتابة الدستور، ولكني رأيت أن ذلك يجب أن يكون بالتوافق بين القوى السياسية، وليس عبر استفتاءٍ يشرف عليه العسكر.
خامساً، كان قراراً خاطئاً تماماً الثقة فيمن يُحسبون على "النخبة السياسية" ورموزها، سواء ليبراليين وعلمانيين أو إسلاميين أو يساريين، واعتبارهم المعبرّين عن الثورة ومطالبها، فقد بدأت الصفقات والضربات لمطالب الثورة بعد شهور قليلة من سقوط مبارك. وكانت بداية الصدمة مع بعض ممن كان يعارضون مبارك بشراسة، ولكنهم طالبوا بعد الثورة، بأشكال وصيغ مختلفة، ببقاء العسكر في الحياة السياسية، ومنهم يحيي الجمل وعلي السلمي وأسامة الغزالي حرب، الذين اكتشفنا لاحقاً أنهم "ليبراليون حسب الطلب"، وحين تحقّق الليبرالية فقط مصالحهم، وليس من حيث المبدأ والالتزام الأخلاقي. وقد سقط هؤلاء جميعاً من نظري 
وحساباتي، بعد أن تسببوا في فشل الثورة، وساهموا، بقصد أو بغير قصد، في نجاح الثورة المضادة، وعودة العسكر إلى السلطة.
سادساً، كان تفكيراً وقراراً سليماً تماماً حين انتقدت قرار جماعة الإخوان المسلمين الدخول في الانتخابات الرئاسية عام 2012، وكتبت وتحدثت كثيراً عن عواقب هذا القرار الكارثي وغير المدروس، ليس على "الإخوان" فحسب، وإنما على الثورة ومطالبها. كما انتقدت حالة "اليوفوريا" والغرور التي أصابت بعض قياداتهم، ودفعتهم بعيداً عن شركاء الثورة والنضال السياسي ضد مبارك، وهو ما جعل شباب الجماعة يهاجموني، كلما انتقدت رعونة قرارات قياداتهم وخياراتهم السياسية بعد ذلك.
سابعاً، كان تفكيراً خاطئاً تماماً حين اعتقدت أن المجتمع الدولي، وخصوصا الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لن يسمح بعودة الديكتاتورية في مصر، وأن الجميع سوف يدعم تجربة الانتقال الديمقراطي في مصر، وأن عصر الانقلابات العسكرية قد ولّى ولن يعود، خصوصا بعد ثورة يناير المجيدة.
وأخيراً، كان قراراً صائباً تماماً أنني رفضت ما وقع يوم الثالث من يوليو/ تموز 2013، واعتبرته، منذ لحظاته الأولى، "انقلاباً"، ليس على حكم الإخوان فحسب، وإنما على ثورة يناير ومطالبها وأرواح شهدائها. وقد سمّيته كذلك منذ اليوم الأول له سواء في مداخلاتي الإعلامية مع الصحف والفضائيات العربية والأجنبية، أو في كتاباتي الصحافية والبحثية. وهو قرارٌ دفعت ثمنه، ولا أزال، ولست نادماً عليه، مدركاً أنني أقف على الجانب الصحيح من التاريخ، ومعترفاً بأنني لو لم أتخذ قراراً سليماً بحياتي سوى هذا القرار لكفى.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".