في عيد تلفزيون العربي

في عيد تلفزيون العربي

25 يناير 2019
+ الخط -
لا يا هؤلاء، ليست القصّة أن لا أحد يقول عن زيتِه إنه عِكِر. والهؤلاء (بالإذن من الروائي مجيد طوبيا) هم محترفو الخراريف والنمائم والسخافات. أتحدّث عن مرضى خربانين، أصابَهم النجاحُ المحقّق لتلفزيون العربي بسويداءَ ثقيلة، سيما وأن هذا المشروع الإعلامي ما أنْجَزَ صدارتَه في خريطة الفضائيات العربية، في سنواته الأربع التي تكتمل اليوم، وما حاز جمهورَه العريض، والمتعدّد الميول والأذواق، إلا لأنه تلفزيونٌ انصرف عن الاكتراث بصنّاع الرّداءة والضغائن، ولم يحفل لحظةً بأيٍّ من التفاهات التي يحترف هؤلاء إشاعتَها، وإنما انكبّ على إنجاز المُمتع والمفيد. أراد أن يكون صادقا فحسب، أن لا يُهادِن استبدادا في أي أرضٍ عربية، أن يقول للأعور إنه أعور، بلا لعثمةٍ أو تأتأة. أراد أن يكون شاشةً للفُرجة على الجميل في الثقافة والفنون، مما يُنجزه المبدعون في الأمة، وبينهم المهجوسون بالتجريب والتجديد. ولذلك، خسارتُه فادحةٌ من لا يقيم صداقةً خاصةً مع "العربي"، ولا يتباسط مع برامج هذه الشاشة الناهضة، الأكثر ألفةً مع مشاهديها، وإنْ كان منهم ساخطون لا يعجِبُهم العجب ولا الصيام في رجب، فثمّة ما قد يُصادِفه هؤلاء في تلفزيون العربي، ويُبهجهم، فالشاشة تُناجي الصادقين مع أنفسهم، سيّما غير المطمئنين لأي ثباتٍ خادعٍ وسكونٍ زائف. 
جاء تلفزيون العربي في الوقت الصح، في اللحظة العربية التي اتضح فيها خطّان متضادّان، وخصمان بداهةً: مع حريات الشعوب العربية وثوراتها وإرادتها في التخلص من الاستبداد والفساد، ومع التواطؤ ضد هذه الإرادة، بالدعاوى المائعة إياها، عن ظلاميين وتنويريين، عن ربيعٍ وخريف، فيما المتواطئون هؤلاء هم مع الرصاص والدبابات في الشوارع. لم يأت تلفزيون العربي ليكون منصةً لخطابٍ أيديولوجيٍّ أو سياسي يتبع أي أحد، وإنما ليُساهم في إذاعة قيم الحرية والجمال والعدالة في الأمة. وهذه حمولةٌ تُطالبك بأن تكون في ضفةٍ مناوئةٍ لمن اصطفّوا مع الاستبداد وقتل المعارضين والمتظاهرين، وسجن الناشطين والناشطات والدعاة النظيفين. هذه هي القصة. ولأن هذا جهدٌ متعبٌ، وله أثمانه، لم يكن الرهان على غير الكفاءات الحرّة، من أهل الخبرة بجديد الإعلام واستحقاقاته المهنية والجمالية، ومن أهل الدراية بفنون التواصل والتخاطب مع الجموع، وتحديدا مع العرب في مدنهم وأريافهم وقراهم وبواديهم ومخيماتهم، وفي بلدان الاغتراب والمهاجر. العرب المشتاقين إلى البديع والممتع، والبهيج والمفرح، الصادق والحقيقي، في مناخات الكآبة الفادحة الراهنة. العرب الذين سئموا التفاهات السقيمة في إعلام مدح البساطير والطغاة والفاشلين والمتورّمين بأوهام القوة، في ميديا الكذب الإلكتروني وغيرها. العرب الذين سرّهم أن ثمّة في الأرض العربية من يُريد للأمة نجاةً من هؤلاء وأشباحهم، فينهض بمشروعٍ إعلاميٍّ منفتحٍ، تشغُله الأسئلة والمساءلة، معنيٍّ بالجدل مع الأفكار والآراء والاجتهادات، ولكن وقوفا على أرضٍ تنتصر للإنسان وحريّاته، وتناهض التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وترفض العسف الاجتماعي، وتُخاصم الركاكة. وقد نجح "العربي" في مغامرته هذه، فاستحق تقدير مشاهديه ومتابعيه، والتكريم بجوائز مقدّرةٍ، في منافساتٍ عالميةٍ وعربية.
ثمّة مواهبُ عربيةٌ عالية الكفاءة، شابّةٌ ومخضرمةٌ وبين بين، في الغناء، نتباسَط معها، نحن جمهور تلفزيون العربي، في برنامج "طرب"، كما البرنامج الشبابي اللافت "ريمكس"، والذي لم يسبقه شبيهٌ به. وثمّة شبانٌ وشاباتٌ في الأمة قادرون على المساجلة في غير شأن، فيتناقشون مختلفين، ويحترمون منطق المغايرة، في "جدل". وفي النقاش السياسي، لا تعالُم ولا أحادية، فالحكومي والمُعارض حاضران، ومن دون تقصّد المحاججة بذاتها، وإنما توسّل النفع والإفادة، في "العربي اليوم" و"الساعة الأخيرة" و"للخبر بقية" و"تقدير موقف". أما تجارب المجرّبين، في غير ساحةٍ عربية، فموضع محاورة وإضاءة، في برنامج "في رواية أخرى". وثمّة جديد مشاغل الناس وهمومهم، متوازيا مع جديد الفنون والثقافة وأنشطتها، ولها "شبابيك". وللضحك الساخر على رداءات الحال العربي "جو شو". وليس من برنامج تلفزيوني عربي يحتفي بالكتاب بمحبةٍ، وبمحبةٍ نقديةٍ أحيانا، كما يفعل "عصير الكتب". ولأهل مصر التي خصّ تلفزيون العربي ثورتَها بأن ينطلق في يوم عيد ثورتها المباركة، هناك البرنامج الرهيف "بتوقيت مصر"، والذي نجح في "اختطافنا"، نحن غير المصريين، لمشاهدته. وثمّة فيما يتعلق بالخليج وناسه حصّتهم "خليج العرب". ولعل "الخط الأخضر" وحده في التلفزات العربية يعتني بالمرابطين في وطنهم فلسطين المحتلة في 1948. ويهدينا "صباح النور" في صباحاتنا وجبةً متنوعةً، عساها تسعفنا في اعتدال أمزجتنا في نهاراتنا... أما أن هذه البرامج، وأخرى ليست قليلةً غيرها، تأخذنا إلى صحبةٍ يوميةٍ مع تلفزيون العربي، فذلك لأن أناقتها الرائقة وبساطتها العميقة تجعلانا نرى ظلالنا فيها.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.