جولة بومبيو.. كأنك يا أبو زيد ما غزيت

جولة بومبيو.. كأنك يا أبو زيد ما غزيت

23 يناير 2019
+ الخط -
لم تكن جولة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، الشرق أوسطية، الأسبوع الماضي، التي زار خلالها ثمانية عواصم عربية (عمّان، القاهرة، بغداد، الرياض، الدوحة، أبو ظبي، المنامة، مسقط)، ناجحةً أو مثمرةً بكل المقاييس، فقد جاءت من دون خطة؛ كما لم يعلن في ختامها عن أي اتفاق أو تصور محدّد أو خريطة طريق، للوصول إلى الأهداف التي طرحها مع مضيفيه، إذا استثنينا التوقيع على مذكرة تفاهمٍ مع الحكومة القطرية لتوسيع الوجود الأميركي في قاعدة العديد الجوية؛ وهي نقطةٌ جانبية، ناهيك بعدم وجود ضمانةٍ حقيقيةٍ لثبات التعهدات التي أطلقها، تبقى قائمة "ربما فقط حتى التغريدة القادمة للرئيس ترامب"، وفق قول الدبلوماسي الأميركي السابق، سايمون هندرسون، في مقالته "ثمانية أيام في الشرق الأوسط تضع دبلوماسية بومبيو في الاختبار"، نشرها في صحيفة ذي هيل يوم 7/ 1/ 2019، وترجمها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى يوم 9 /1 /2019.
قيل إن هدف الجولة طمأنة الحلفاء العرب، وتوضيح السياسة الأميركية من قضايا المنطقة، بعد التوجس والقلق اللذين أحدثهما إعلان الرئيس دونالد ترامب سحب قوات بلاده من سورية؛ والتناقض الفاضح بين ما يقوله المسؤولون الأميركيون وما يكتبه رئيسهم من تغريدات.
ضمن هذا السياق، يمكن تقويم جولة بومبيو؛ ومدى نجاحها في إزالة التوجس والقلق لدى قادة الدول التي زارها، خصوصا في نقطة تخلّي الولايات المتحدة عن حلفائها؛ ومدى جدّيتها في مواجهة التغوّل الإيراني، المباشر وغير المباشر؛ عبر أذرعها من المليشيات الشيعية المحلية والعابرة للحدود، فالموقف المتشدّد من إيران ظل نظريا حيث لم تكرّس الإدارة أي جهودٍ أو موارد للحد من تأثيرها في سورية، وقد زاد إعلان الرئيس الأميركي بالانسحاب منها الطين بلة.
حمل بومبيو معه عنوانا واحدا: مواجهة إيران، عبر تشكيل تحالف استراتيجي بين مجموعة دول عربية، الدول التي زارها، عُرف إعلامياً بـ"ناتو عربي".
لم تكن الفكرة جديدة؛ فقد طرحت من عدة أشهر؛ لكنه وجد أنها صالحةٌ لشد انتباه قادة الدول المعنية، وتخفيف توجّسها وقلقها، من جهة، وتلبية تصورات رئيسه وتطلعاته التجارية، لجهة 
تكليف هذه الدول بتحمّل مسؤولية الدفاع عن نفسها، والدفع مقابل المساعدة الأميركية، فالدور الأميركي، وفق نظرته، يقتصر على دعمهم بشكل غير مباشر، بعقد صفقات أسلحةٍ معهم، وتقديم خدمات استخباريةٍ ولوجستيةٍ مدفوعة الأجر، والضغط على خصمهم الإيراني بفرض العقوبات والانسحاب من المعاهدة النووية، والدعوة إلى عقد مؤتمر دولي في وارسو يومي 13 و14 فبراير/ شباط المقبل، لزيادة الضغط وتشديد الحصار عليه دوليا.
أعاد الوزير بومبيو طرح مشروع تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي، وهو يدرك حجم العقبات التي تعترض تنفيذه، فالدول المرشّحة للانخراط فيه ليست موحّدة على اعتبار إيران عدوا، وليست متفقةً، أو حتى قادرة، على تبنّي الخيار العسكري، إنها منقسمة على نفسها، حيث اصطفت السعودية والإمارات والبحرين ومصر في مواجهة قطر؛ قاطعتها وحاصرتها
اقتصاديا، ودفعتها إلى الاعتماد على إيران في توفير ممرّاتٍ جويةٍ لطائراتها لنقل الركاب والسلع الغذائية المستوردة، وقف الأردن في الوسط؛ لاعتباراتٍ أمنيةٍ واقتصادية، ويعاني من هشاشةٍ بنيويةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ في ضوء تركيبته السكانية والمذهبية، وضعف قدراته الدفاعية. كان الأوْلى به أن يبدأ بحل الخلاف، وإعادة الوحدة إلى مجلس التعاون الخليجي، والعمل على توحيد المواقف من الملفات المطروحة، خصوصا الموقف من إيران، قبل أن يطرح مشروعه العتيد، ناهيك بتجنيبها الحرج الذي تسبّب به بالحديث عن تقاطع مصالحها مع إسرائيل،والتلميح إلى ضرورة التعاون معها في هذا المجال، قال في حديث لقناة‎ سي. إن. بي. سي الأميركية: "أحد أهداف الرحلة الحالية هو استمرار الجهود لتشكيل تحالف دولي ضد إيران، وهو تكتل ‏سيضم دول الخليج وإسرائيل وبعض الدول الأوروبية والآسيوية، تلك الدول التي تفهم أن إيران ‏أكبر دولةٍ راعيةٍ للإرهاب، ويجب وقف أنشطتها‎"، وهو يعلم أن جزءا مهما من شرعيتها في نظر مواطنيها قائم على ادّعائها تمسّكها بحق الشعب الفلسطيني، ودعمها له.
لم يتوقف فشله عند عدم تقديمه تصوّرا محدّدا وعمليا لمواجهة إيران، ولا عند تجاهله قضايا حسّاسة تهم هذه الدول وشعوبها، مثل الموقف من حل الدولتين، بل ذهب بعيدا في دفاعه عن قرار رئيسه الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، ودفاعه عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها حد إبلاغه رئيس الوزراء العراقي أنّ واشنطن "لن تقف بوجه إسرائيل، في حال قصفت الأخيرة مواقع للحشد الشعبي في العراق".
لا تكفي مهاجمة إيران وتحميلها مسؤولية الخراب الذي تعيشه المنطقة، بدولها وشعوبها، لتحويل الولايات المتحدة إلى قوة خير، فكون الآخرين يتبنّون سياساتٍ خاطئة ومدمرة لا تجعل سياستك صحيحةً ومقبولةً، المهم ما تطرحه أنت كحلول، طبيعتها جدواها مآلاتها؛ إذ "كيف يمكن لأميركا أن تكون قوة خير في المنطقة، وفي الوقت نفسه، تخفض التمويل عن البرامج الدبلوماسية والعسكرية وبرامج المساعدات الأساسية، وتقدّم شيكاً مفتوحاً لحكومات ترتكب انتهاكاتٍ جسيمةً لحقوق الإنسان، وتفرض حظراً على السفر، وتضع عراقيل بيروقراطية لمنع أفراد (معيّنين) من دخول الولايات المتحدة؟"، وفق بين فيشمان ودانا سترول في مقالهما المشترك "خطاب بومبيو في القاهرة: "عودة إلى المستقبل" أكثر منه انفصالاً عن الماضي"، نشراه في صحيفة ذي هيل يوم 16 /1 /2019، ترجمه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى يوم 18 /1 /2019.
انطوى خطابه أمام طلاب الجامعة الأميركية في القاهرة على تلميحاتٍ ضد الربيع العربي، وضد النزوع الشعبي المشروع للتغيير، في عودةٍ صادمةٍ إلى سياسة الولايات المتحدة التقليدية بتبنّي الاستقرار على الحرية والعدالة للشعوب التي اعتمدتها عقودا متصلة، ورسالة دعمٍ لأنظمة الاستبداد ضد أي تحرّكاتٍ شعبيةٍ محتملةٍ للحصول على الحرية. في حين جاءت ثورات الربيع العربي تعبيرا عن تعطّش الشعوب العربية (وخصوصا الشباب العربي)، إلى نوع من 
التحرّر السياسي، وإلى فرص اقتصادية أفضل، "ومن الواضح أن تعظيم صوت هذه الشعوب، مع الوقوف بشكلٍ مقنعٍ ضد التهديدات التي تواجه الجميع، هو الطريقة الأكثر فعاليةً التي تكون فيها الولايات المتحدة قوة خير (فعلية) في الشرق الأوسط". وفق فيشمان وسترول في مقالهما.
زاد الصورة قتامةً تزامن جولته الشرق أوسطية مع زيارة مستشار الأمن القومي، جون بولتون، والسيناتور الجمهوري، ليندسي غراهام، إلى المنطقة، وتناقض مواقفهما مع ما طرحه في محطات جولته. استفزّ بولتون تركيا في حديثه عن ضرورة تنسيق عملياتها العسكرية شرق الفرات مع الولايات المتحدة ومطالبته بحماية الكرد. في حين أعلن غراهام الذي يمثل جناحا
داخل واشنطن، ويرى وجوب المحافظة على التوازن الحساس في العلاقة مع كل من الكرد والترك، أن انسحاب القوات الأميركية من سورية يجب أن يخدم ثلاثة أهداف، تتمثل في هزيمة تنظيم داعش، ومنع انتصار إيران، وحماية تركيا وحل مشكلة وحدات حماية الشعب (الكردية) وحزب العمال الكردستاني في سورية، غدت وحدات حماية الشعب التي أراد بولتون حمايتها مشكلة، في تناقضٍ تام مع ما أعلنه هو (بومبيو) في أربيل عن تعهد الرئيس التركي بحماية الكرد حلفاء الولايات المتحدة.
لقد أدرك بعد عودته إلى بلاده بأيام عدم تحقق هدف الجولة: إزالة التوجس والقلق في هذه الدول، فعاد إلى الإعلان "أن الولايات المتحدة لن تخرج من الشرق الأوسط قطعياً، على الرغم من خطة إدارة الرئيس دونالد ترامب لسحب القوات من سورية". لا تكمن المشكلة في تناقض مواقف الرئيس ومبعوثيه، ولا في تباين مواقف المبعوثين أنفسهم، بل تكمن في طبيعة سياسة الإدارة ومحدّداتها، سياسة منطلقها وقاعدتها تجارية بحتة، حيث لا أصدقاء ولا أعداء دائمون؛ ولا قيمة للعلاقات التاريخية ما لم تتأكّد بعقود رابحة، تجسد ذلك في فرض رسومٍ جمركيةٍ على الأصدقاء والأعداء، من دون تمييز، وحيث التركيز على المكاسب المباشرة ودعم النزعة القومية والحمائية والتفرد بالقرار على حساب التعاون الدولي. وهذا أضعف علاقتها بالنظام الدولي القائم، وحدّ من تأثيرها العالمي.