ممانعةٌ شعبها عميل

ممانعةٌ شعبها عميل

22 يناير 2019
+ الخط -
ليس هذا القول جديدا، وهو ليس تهمةً تحتاج إثباتا بالنسبة لنظم الممانعة العربية الإيرانية الهوى، المؤمنة بوجود مؤامرةٍ كونيةٍ تستهدفها، ورّطت الصهيونية فيها شعوب النظم الممانعة، من دون غيرها، بعد نجاحها في شطر كل نظام إلى معسكرين: واحد مقاوم/ ممانع، يقوم بواجبه في حماية وطنه من متآمرين وعملاء، ولا يُلام إن أفرط في استخدام القوة ضد شعبه الإرهابي أو العميل، الذي ينفذ مؤامرةً معاديةً ضد ما يفترض أنه وطنه، وآخر ينصاع لأوامر تل أبيب، يتكوّن من شعوب نظم المقاومة والممانعة، ومن ينحاز إليها سياسيا وخيانيا، ويتلقون أوامرهم من أعداء وطنهم، في تل أبيب وواشنطن.
بعد قرابة نصف قرن من حكم شمولي فردي، لم يسمح بأي نوعٍ من المشاركة في السلطة والشأن العام، غابت خلاله أحزاب المعارضة، وغاب حضورها الشعبي وتأثيرها المجتمعي، بفقد ضيق المجال العام، وما يسوده من إرهابٍ سلطوي، كان منطقيا أن يُنسب انفجار المجتمع السوري إلى ما تبنّته الأسدية أربعين عاما من سياساتٍ وممارساتٍ معاديةٍ ومستفزةٍ للشعب، حجبت عنه، بالعنف، باعتباره أداة وحيدة للسياسة، ما كانت قد وعدته من حقوقٍ عامةٍ وشخصيةٍ، بعد إخباره بأنها لم تستولِ على الحكم إلا لتحققها له، وخصوصا منها حريته. لكنها، وما إن ذكّرها أول مواطن سوري بوعدها، وطالبها بتحقيقه، حتى اتهمت الشعب السوري، بقضّه وقضيضه، بالعمالة للإمبريالية وإسرائيل، على الرغم من أن من نزلوا إلى الشارع التزموا بحراكٍ سلمي/ مدني منضبط، وطالبوا بإصلاحٍ تقوم به السلطة، بقيادة بشار الأسد الذي رفض طلبهم، واعتبر حراكهم السلمي جزءا من "مؤامرةٍ كونيةٍ" ضد نظامه وضده، ليست أوضاع السوريين المزرية سبب انخراطهم فيه، وإنما تحرّكهم أيد خارجية بحساباتٍ أجنبية، وينفذونها بحماسةٍ واندفاعٍ عضد سلطةٍ شرعيةٍ تجسّد حقوقهم أكمل تجسيد.
منذ عقود، يقف المواطن السوري ساعاتٍ عديدةً كل يوم أمام الأفران لشراء حاجة أسرته من الخبز، في بلادٍ تنتج فائضا من القمح، يربو سنويا على مليوني طن. ويستميت المواطن نفسُه للحصول على قارورة غاز في وطنٍ لديه ثروةٌ منه تفيض كثيرا عن حاجته، يُبدّد معظمها حرقا. ويأكل التضخم راتب المواطن المعذّب أو أجره، وهو الذي يعاني الأمرّين للحصول على أبسط حاجات أطفاله، بما أن تكلفة الكهرباء والماء الشهرية تلتهم ثلث راتبه، بينما يبتلع إيجار البيت ومخصص النقل نصفه، فلا يبقى له غير عيش الكفاف، والغرق في الديون وانتهاك كرامته الشخصية، عبر غرقه في الفساد، ومدّ يديه إلى جيوب المعذّبين أمثاله، بينما يعيش أرباب السلطان من قادة التجربة الاشتراكية والمقاومة والممانعة في نعيمٍ مقيم، ويحوّلون سلطتهم السياسية إلى فائضٍ من الثروة والجاه، وينعزلون أكثر فأكثر عن المواطنين، ويسوّرون مزارعهم وفيلاتهم بجدرانٍ عاليةٍ، يحرسُها مسلحون أعداؤهم من تقع أعينهم عليهم من مواطنيهم البؤساء.
يقول أهل السلطة إن هذا الواقع لا يسوّغ تذمر الإنسان المحروم الذي تحمّل الذل عقودا، لأنه محبٌّ لوطنه حريصٌ عليه، ارتضى هوانَه، لأنه يخاف أن يفعل شيئا قد يضرّ به. لذلك، انتظر بصبرٍ وتفانٍ مبادرة "سيد الوطن" إلى الوفاء بوعود سلطته، على الرغم من أن الواقع كان 
يُجبره، أكثر فأكثر، على تذكيره بوعوده الإصلاحية، وبضرورة تحقيقها على يديه هو بالذات.
يتجاهل الأسديون دورهم في الانفجار الشعبي الذي تعيشه سورية، ويرون في انضمام ملايين السوريين إليه ما يؤكّد وجود "المؤامرة الكونية" ضدهم، ويرفضون بإصرار الوقوف أمام السؤال الذي تطرحه ادعاءاتهم: إذا كانت إسرائيل تستطيع تحريك ملايين من الشعب ضد نظامٍ مقاومٍ/ ممانع، من الذي يجب أن يُعتبر مسؤولا عن ذلك: الجهات الخارجية التي تعلن الأسدية، من دون كللٍ أو ملل، أنها تقاومها وتحمي الشعب والوطن منها؟ أم نظامها الذي استأثر بالسلطة والنفوذ والقوة والإعلام والتربية والتعليم والمجال العام، وعايش بأمانٍ وسلامٍ مع احتلالها الجولان منذ أكثر من نصف قرن، لم يقاومها خلاله بأية صورةٍ منظمةٍ أو مستمرّة، على الرغم من إشادته بدوره في الانتقال من الصمود ضدها إلى التصدّي الفعال لها وكبح جماحها، وإجبارها على العيش تحت النار التي قد تعصف بها في أي وقت، بعد أن ضرب طوقا مُحكما حولها، يمتد من لبنان إلى سورية والعراق، بدعم من قاعدة الصمود والتصدّي، إيران الملالي التي وضعت مدن العدو ومستوطناته في مرمى عشرات آلاف الصواريخ الدقيقة، كما أكد حسن نصر الله في آخر خطبه؟
ألا يدعو إلى الاستغراب أن الصهيونية لم تنجح في اختراق أي مجتمعاتٍ غير التي تحكمها أنظمة مقاومة/ ممانعة، تعلن أنها نجحت تماما في إخراجها من فضائها الداخلي، بما تخوضه ضدها من معارك خفيةٍ وظاهرة؟ ألا يخجل المستبدّون من تناقض مزاعمهم عن مقاومتهم مع اتهام شعوبهم بالتعاون ضدهم مع العدو، وانخراط هذه الشعوب في "مؤمرات العدو عليهم"؟ ألا يعني هذا التهافت إخفاقَهم في حجب الحقيقة، وأن تمرّد مواطنيهم يرجع إلى سياساتهم التي يكفيها عارا أنها دفعت هؤلاء المواطنين إلى تفضيل الصهاينة عليهم، بل والثورة عليهم بأوامر من أولئك الصهاينة؟ إذا كانت الصهيونية قد اخترقت مجتمعات نظم المقاومة والممانعة، من دون غيرها، باعتراف قادتها الذين انضم إليهم أخيرا الرئيس السوداني، عمر البشير، الذي اتهم السودانيين بالتواطؤ مع الصهاينة، فهذا له معنيان: أن هؤلاء الذين انفردوا بحكمها نصف قرن هم الذين أوصلوها إلى التماهي مع أعدائها، أو أن سياساتهم تجاه مواطنيهم خدمت الصهاينة إلى حدٍّ أقنعهم بتنفيذ أوامرها ضد نظمهم؟ انفرد نظام حافظ الأسد بالسلطة والثروة والمعرفة والقوة والإعلام والتربية والتعليم ثلاثين عاما، وحين مات أورثها لابنه الذي أقنع مواطنيه بأن نظامه قوة احتلال تستعمر وطنهم، ويريد أن يتحرّر منهم ليحرّر نفسه من صهيونيتهم وعمالتهم، ويستمر اضطهادهم باسم مقاومةٍ وممانعةٍ لم تستهدفا يوما الصهيونية منذ 1974، بل استهدفتا الشعب بقدر عظيم من العنف والقسوة، بينما يتنعم "العدو" الصهيوني بسلامهم منذ أكثر من نصف قرن!
إذا كان صحيحا أن الشعب السوري متآمرٌ مع الصهاينة ضد نظامه المقاوم، والصهاينة هم الذين أوعزوا لفقراء السودان وجياعه بالنزول إلى الشارع للمطالبة برغيف الخبز، وبحقّهم في سحب بعض مالهم الخاص من المصارف، لشراء الخبز لأطفالهم، وهو حقٌّ ترفضه، كأن مالهم ليس ملكهم، بل ملك أرباب السلطة الذين يودعون أموالها في الخارج، فهذا معناه أن على الأسدية والبشيرية الإقلاع عن اعتبار نفسها نظم مقاومةٍ أو ممانعة، ما دامت تقاوم الصهاينة في الخارج، وتسمح لهم بصهينة شعبها في الداخل، والاعتراف بأنها تكذب، حين ترى متآمرا في جائعٍ يعجز عن استخدام ماله في شراء خبز لعياله، لأن الحكم السوداني لم يوفّر له الخبز من جهةٍ، وصادر مدّخراته من جهةٍ أخرى. وفي الحالتين، عليه أن يرحل، ويعيد السلطة إلى صاحبها الذي سرقها منه بنصف قرن، بوسائل تتفق تماما مع ما تستخدمه الصهيونية ضد شعب فلسطين.
أخبرونا بربكم كيف يمكن لشعبٍ التورّط في مؤامرة صهيونيةٍ/ إمبريالية، إذا كنتم تزعمون يوميا أنه نصير لمقاومتكم لا تلين له قناة؟ وكيف له أن يطالب بتحرير الجولان وفلسطين في الخارج، وأن يكون عميلا لها ينفذ أوامرها ضد مقاومتكم، في الداخل؟ أي شهادةٍ لنظمكم إن كان شعبكم يتآمر حقا مع عدوكم ضدها، بعد أربعين عاما من انفرادها بحكمه، وتقرير شؤونه؟ وأي شهادةٍ لكم إن كان قد منحكم ثقته قبل نصف قرن، لأنكم وعدتموه بتحرير فلسطين، وها أنتم تتّهمونه، بعد خمسين عاما من المقاومة والممانعة التي أوصلت جيش إسرائيل ثلاث مرات إلى مشارف دمشق بالتآمر مع الصهاينة عليكم، بحجةٍ مؤلمةٍ ترى في استعادته شعوره بإنسانيته وحقوقه مؤامرة صهيونية/ إمبريالية/ داعشية، لا رد عليها غير القوة التي أحجمتم عن استخدامها ضد الصهاينة، المتنعمين منذ خمسين عاما ونيف بشمس الجولان، وتفاحه وكرزه وثلجه ومياهه وأرضه وخيراته الكثيرة. أليس شيئا فظيعا أن تبادروا إلى سحق الشعب، رأسمال أي مقاومة أو ممانعة، بواسطة جيشكم الذي دأب على الفرار والتخلي عن أرض الوطن، في جميع الحروب التي شنتها الصهيونية على بلاده، منذ عام 1967؟
منذ 51 عاما، وأنتم تضطهدون وتعذبون وتعتقلون وتخفون وتشوّهون، وتهجرون من يطالبونكم بتحرير الجولان الذي أهديتموه إلى إسرائيل على طبقٍ من ذهب، ومن دون قتال. ومع ذلك لا تتراجع مؤامراتهم المزعومة على نظامكم، فقولوا لنا بربكم: إذا كانت هناك 
مؤامرةٌ رهيبةٌ كهذه، لماذا لا تفعلون شيئا ضدها، ولا تكشفونها إلا عندما يطالبكم شعبكم بحقوقه وحريته؟ ولماذا لا تقدّمون أية أدلةٍ على وجودها قبل ذلك؟ ما عساها تكون هذه المؤامرة التي تستمر، على الرغم من إبادة حاملها ومنفذها، الشعب الذي يحاول استعادة حريته التي سلّمها إلى من وعدوه بتحرير فلسطين، فحوّلوا نظامهم المقاوم إلى استعمار محلي مماثلٍ لاستعمار الصهاينة في فلسطين، وربما كان أسوأ منه؟
يجلس المتآمرون على شعوبهم على كراسي الحكم، وينفّذون خططا ضمنت تفوّق إسرائيل الساحق على بلدانهم، واغتالت روح الحرية في صدور مواطنيها. وحين تتحرّك في قلوبهم من حين إلى آخر، ويرفضون ما آلت أوضاعهم إليه، يتعرّضون للإبادة المنظمة على يد أجهزة يفترض أن مهمتها حمايتهم، والحجة إحباط مؤامرة ليس بين أسبابها ما يمارسه حكام سورية من تخلٍّ عن المسألة الوطنية، بعد 1974، ووضع مجتمع ودولة سورية تحت رحمة مدافع الاحتلال الذي يراقب بسعادة جيش الأسدية، وهو يدمر مجتمع سورية ودولتها بمدافع كان يجب أن توجه إليه، نيابة عنها، من دون أن يفكش جندي إسرائيلي واحد قدمه. وكان سيفقد عشرات الآلاف من جنوده وضباطه، لو كلف بتحقيق هذا الهدف الصهيوني الاستراتيجي الذي يفرغ جواره من القوة، ويتيح له أن يراقب باسترخاء حروبا تدمر الشعوب المجاورة وبلدانها بأيدي حكامها، وهم ينفذون مؤامرةً يتهمون شعوبهم بالتورّط فيها، ليبطشوا فيها بذريعة مقاومة عدوٍّ هو المستفيد الوحيد منها.
E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.