عن العنف الأسري.. السعودية نموذجاً

عن العنف الأسري.. السعودية نموذجاً

22 يناير 2019

(Getty)

+ الخط -
بعد رهف، تهرب فتاة سعودية ثانية من منزل عائلتها في الرياض، جرّاء ما اعتبرته عنفاً أسرياً. ويفيد مركز بلاغات العنف الأسري بأنّه تعامل مع 11 ألف حالة عنف في 2016. وقد جاءت واقعة الفتاة المعنفة، نجود المنديل، بعد أيام من هروب الفتاة السعودية، رهف محمد القنون، من أسرتها، بسبب العنف، وحصولها على لجوء في كندا التي تشهد علاقاتها مع السعودية أزمة حادّة، على خلفية انتقاداتٍ متعلقةٍ بالشأن الحقوقي في المملكة (الناشطات السعوديات وغيرهن).
يجمع دارسون مختصون على أن ذلك يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسة، أولها استمرار فعل موروث البنى الاجتماعية والثقافية التقليدية في الفضاءين، الاجتماعي والسياسي، والتي تقوم على مفاهيم السيطرة والإخضاع والغلبة والقوة والفحولة، والتي تغرس في الناشئة خصوصاً، والمرأة عموماً، عادات الطاعة والخنوع والاستسلام لولي الأمر، سواء أكان أباً، أم ولياً، أم حاكماً. أما السبب الثاني للتعاطي مع ظاهرة العنف وسيلة من وسائل تأديب النساء، وأداةً ناجعةً لحملهن على الرجوع إلى الجادّة فيعني وفقا للأعراف والقيم التي رسخها ذلك الموروث في الضمير الجمعي والسلوك الاجتماعي، الطاعة العمياء للولي والانضباط لأوامره، وتنفيذ تعليماته، والأهم من ذلك كله الإحجام عن أي تصرّف يتعارض مع القيم والعادات والتقاليد السائدة، فكل تصرّف من هذا القبيل يمثل مروقا عن السّائد، وطعنا لكرامة الرجل وشرف العائلة.
الملاحظ إذا أن علاقة التبعية التي يجتهد ذلك الموروث لصوغها بين الرجال والنساء لا تجرّد المرأة من هويتها فحسب، ولا تحرمها فقط من نعمة الاستقلال في الرّأي والعمل، بل تحولها موضوعيا وعمليا إلى "عبدة" للرجل، امرأة تستبطن الشعور، وأنه لا خيار لها سوى طاعته، 
والخضوع لسلطة الرجل المطلقة.
من جهة أخرى، تشرّع التربية السائدة في العائلة السعودية، وغيرها من بعض البلاد العربية، العنف ضد المرأة وضد الأبناء، فهو ظاهرة مقبولة، بل مطلوبة لحراسة القيم العائلية والاجتماعية، ولينشأ الخلف على شاكلة السلف، فالرجل في هذه المجتمعات يتعامل مع المرأة كما يتعامل مع الأبناء، فهي هدفٌ للتأديب في حالة النشوز، وهي، في كامل مراحل عمرها، يتم التعامل معها باعتبارها قاصرة أو فاقدة للأهلية. تضاف إلى ذلك ثقافة تفضيل الأبناء على البنات التي ترسي منذ الطفولة جذور التمييز بين الجنسين، لا لشيء إلا لأنهن إناث، وتؤثم المرأة، وتؤسس في وقت مبكر لفكرة أن المرأة عورة، وأن حماية شرف الأسرة رهن لحمايتها.
نلمس هذه الحقيقة بوضوح في تعنيف الإخوة أخواتهن، وفي الوصاية التي يفرضونها عليهن منذ الطفولة. أما كيف يؤثر العنف والتربية الذكورية سلبا على المشاركة السياسية والاجتماعية للمرأة، فتقول الباحثة اللبنانية فهمية شرف الدين، في إجابتها على هذا السؤال، والذي يعيدنا إلى معاناة الناشطات السعوديات، "إن الثقافة الأبوية السائدة في الفضاء الأسري، والتي تقوم على مفاهيم السيطرة والإخضاع والإكراه هي ذاتها الثقافة السائدة في الفضاء السياسي، فالعلاقة بين الحكام والمحكومين، أو بين السلطة والمجتمع، لا تزال تحكمها في أغلب البلاد العربية والإسلامية، وإن بتفاوت، نفس القيم والعادات الموروثة وتصدر عن ذات المفاهيم". ففي كلتا الحالتين، نصطدم بعلاقة التبعية وغياب مفهوم المواطنة، ففي المجال الخاص لا تزال العلاقة بين المرأة والرجل عموما علاقة السيد بالمسود. وفي المجال العام، لا تزال علاقة أولي الأمر بالمواطنين علاقة الراعي بالرعية. وبالتالي، فإن كلتا الحالتين يحبلان بمفهوم القصور والوصاية.
من الوجهة النفسية والاجتماعية، يرجع علماء النفس الاجتماعي سلوك الرجل تجاه المرأة والأبناء في هذه المجتمعات "الإخضاع، السيطرة، العنف" إلى اعتباره من ضروب التعويض عن هدر حقوقه في المجال العام، وعن التعاطي معه بوصفه رعية. وهكذا نلاحظ هنا أن قضية الاستبداد لا تتجزأ، شأنها شأن قضية الحرية وحقوق الإنسان، فهو شأن يخضع لتراتبية أو جدلية اجتماعية شاملة، ولا يمكن القضاء عليه في نهاية المطاف، إلا باستئصال جذوره في الدولة والمجتمع والأسرة.
يؤكد هذا ضرورة تحويل قضية المرأة العربية (المرأة السعودية نموذجا) إلى قضية مجتمعية، ويعني ذلك تعميم الوعي بأنه لا سبيل لرفع تحديات المدنية المعاصرة، وكسب رهاناتها العلمية والتكنولوجية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، في ظل مواصلة تهميش دور المرأة، والاستمرار في الحط من منزلتها إنسانةً ومواطنة.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي