التنوير من التسييس إلى التهجيص

التنوير من التسييس إلى التهجيص

22 يناير 2019
+ الخط -
كان الأديب المصري الكبير، يحيى حقي، يقول: أكره الأبواب الموصدة، والنوافذ المغلقة، والأدراج "المعصلجة". سألوه عن الأخيرة، ولماذا لم يستخدم مقابلها الفصيح، فأجاب إن "شحنة" الكلمة هي ما تمنحه ما يريد من معنى.
و"التهجيص" كلمة مصرية فرعونية تعني الكذب، إلا أن مفردة الكذب لا تمنحنا، هنا، ما نريده من شحنةٍ وحمولةٍ دلالية، فالتهجيص هو الكذب، الساذج، التافه، الركيك، البليد، المتهافت، ولو أردنا كلمةً واحدةً تختصر هذا كله، وتزيد، لكانت "التهجيص".
أما التنوير فهو مصطلح عربي، له جذور لغوية في القرآن الكريم، وله حضورٌ، على خفيف، في تراثنا الإسلامي، فيما يحضر بقوةٍ في العصر الحديث، بعد الاحتكاك بالحضارة الغربية.
يمكننا أن نتحدث عن تنوير ذي طابع ثقافي "عفوي"، إذا تحدثنا عن رفاعة الطهطاوي (وقبله أستاذه حسن العطار)، مرورا بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعصرهما، وصولا إلى طه حسين وعصره ونظرائه وتلامذته. إلى هنا، نحن نتحدث عن مشروع ثقافي بالأساس، وإن لابسته السياسة من دون التسييس.
توفي طه حسين في 1973، وظهر ما سميت الصحوة الإسلامية تحدّيا جديدا، يضاف إلى رصيدٍ من الانقطاع الحضاري. على صعيد السياسة، استخدم أنور السادات الصحويين للنّيْل من خصومه ومنافسيه على السلطة، قبل أن يتحول مشروع الصحوة بدوره إلى أحد المناوئين له. وبعد مقتله في حادث المنصّة الشهير، دخلت الدولة في معركة وجودٍ مع هذا التيار، على الأصعدة كافة، وجاء خطاب التنوير في هذا التوقيت، ليكون أحد أسلحتها في المواجهة.
حينها رأى المثقف اليساري في الصراع بين الإسلاميين والعساكر "فرصةً"، للمرور ببعض الأفكار التي لم تكن دولة يوليو لتسمح بمرورها في ظروفٍ أخرى، فكان جيلٌ من التنويريين يختصر المشكل في تأثيرات خطاب الصحوة، وامتداداته التراثية، ومشروعه السياسي، ليتحوّل الدين إلى عائق أمام التنوير، بعد أن كان باعثا عليه، وسببا له في خطابات التنويريين الأوائل!
وعلى الرغم من أن كتابات فؤاد زكريا، وجابر عصفور، وفرج فودة، ورفعت السعيد، في هذه الفترة كانت جزءا من مشروع سياسي، إلا أنها أضافت إلى الفضاء العام مساحةً من الوعي، ربما تتغافل عن عمد، عن بعض أسباب التردّي والانحطاط، إلا أنها تشتغل على مساحاتٍ أخرى بشكل أفاد كل الأطراف، حتى خطاب الصحوة نفسه الذي ظهرت فيه، على أثر كتابات هؤلاء، كتاباتٌ إسلاميةٌ تنتقد الصحوة من داخلها، وتكرّر ما قرّره مستنيرو ما بعد المنصّة بحججٍ وأسانيد من داخل المنظومة نفسها!
الآن، توارى هذا الجيل، هم وخصومهم، وجاءت طبيعة المرحلة بآخرين. كان الإسلاميون، في السابق، يشكون من غياب التخصصات الشرعية عن نقّادهم، أو يتحجّجون بذلك، ويتغافلون عن كونهم متخصصين في علومٍ إنسانيةٍ، مثل الفلسفة والسياسة والاجتماع، من شأنها أن تضيف إلى متن الخطاب الشرعي كثيرا مما ينقصه. الآن لدينا صنفٌ من ظواهر التنوير التلفزيوني، فالتنويري لا يلزمه أن يكون أكاديميا، أو كاتبا متمرّسا، أو صاحب كتبٍ ومشاركاتٍ بحثية، أو صحافيا مخضرما مهتما بالشأنين، الديني والسياسي، وله قراءاته ومشاركاته. كل ما يلزمه أن يكون وراءه "منتج"، برنامج وديكورات وفريق إعداد، و"غوغل"، كلمة من هنا وسطر من هناك، مقال من هنا وبحث مسروق من هناك، ويصبح لديك "تنويري" يشبه أغاني المهرجانات، خبط ورزع و"تهجيص"، يجري توظيفه ألف مرة. مرة في إنهاك الخصم وإرباكه وشغله بمعارك وهمية، لا طائل من ورائها، وأخرى في تشويه مفهوم التنوير ذاته، وثالثة في اختصار أزمة الأمة، واختزالها وابتسارها، في البخاري وابن تيمية، وحديث الذبابة، وإرضاع الكبير، ورابعة وخامسة وعاشرة وألف، في "تتفيه" معنى "النقد"، وتسويقه بوصفه مجرد "شغب". وفي الأخير، إما أن ترضى بخطاب التغييب الديني، أو تتحمس لخطاب "التهجيص" التنويري، أو تلوذ بدولة العسكر لحمايتك من الاثنين، وتحيا مصر.