"إيزيجيت" أو فنّ تجهيز المسافر

"إيزيجيت" أو فنّ تجهيز المسافر

22 يناير 2019
+ الخط -
لطالما كان السفر رديف علمٍ ومعرفةٍ واكتشافٍ مجهول، وكُثر هم الكتّاب الذين كتبوا عن رحلاتٍ حملتهم إلى الالتقاء بثقافاتٍ مغايرةٍ وحضاراتٍ أخرى، فنقلوا إلينا انطباعاتهم، إمّا عبر تأريخها بشكل واقعي، أو عبر نسبها إلى أبطالٍ وهميين. لكن اليوم، لم يعد السفر حكرا على نخبةٍ، وقد عُمّم وأصبح تقريبا في متناول الجميع، ولم يعد مدفوعا برغبة اكتشاف الآخر، أو التعرّف إلى ثقافاتٍ جديدة، بقدر ما هو مقرونٌ برغبة الهرب من الروتين، تغيير الأجواء، والتمتّع بالعطل. 
يقول ألكسندر فريدريش، صاحب كتاب "إيزيجيت" (Easyjet) (دار أليا – باريس)، وهي شركة الطيران العملاقة الشهيرة، ذات الكلفة المحدودة، والتي افتتحت نوعا جديدا من السفر والمسافرين: "لقد بات السفر سهلا ومتوفّرا للعدد الأكبر من الناس، بفضل شركات الكلفة القليلة، Low Cost"، وهو ما أدى إلى "ابتكار إنسانٍ جديدٍ، ساذج، خاضع وتائه". ففي الماضي، كان المسافر يهيّئ سفرته قبل وقت طويل، فيحاول أن يقرأ عن البلاد التي سيزورها، وأن يعرف الكثير عن ثقافتها. اليوم، وبحسب المتوفّر لديه من وقتٍ وميزانية، يختار المسافر وجهته، وقد يعود منها من دون أن يعرف شيئا عنها. تأسّست الشركة الضخمة عام 1995، بمركزيها القائمين في إنكلترا وسويسرا، فعدّت مائتي طائرة، ونسبة حجز بلغت 83% وما فوق، و120 وجهة داخل أوروبا، ونحو 50 مليون شخص يتم نقلهم كل عام، بدافع السياحة أو العمل، وهو ما جعل الرحلة تتقدّم على الوجهة، وجعل السفر متاحا رخيصا، نازعاً عنه كل خصوصيةٍ وفرادة.
وكما سبق أن فعل الكاتب الأرجنتيني، خوليو كورتاثار، حين أمضى شهرا على طرقات فرنسا السريعة، من دون أن يغادرها، ابتاع فريدريش 14 بطاقة سفر إيزيجيت، ليقصد 17 وجهة في أوروبا خلال 20 يوما، وذلك من دون أن يترك المطار أبدًا، ما ساعده على تكوين فكرة عن "كابوس" السياحة الجماهيرية المكيَّف، ومكّنه من الإشارة إلى انحرافات عصرنا، والاستلاب الذي يميّز هذا النوع الجديد من التنقّل والترحال.
هذا ويروي الكاتب طرائفَ جرت معه خلال مختلف رحلاته، ويربطها بمظاهر اجتماعية، منها موجات الهجرة العائدة إلى الأزمات التي تعاني منها بعض البلدان، حيث كان يلتقي مسافرين قطعوا تذكرة ذهابٍ من دون إياب، آملين أن يتمكّنوا من تحصيل رزقهم في أماكن أخرى، كما يروي الإجراءات والأنظمة التي تجبر الركّاب على الرضوخ لتدابير مهينة تتعلّق بالأمتعة، والأكل، الوقوف في صفوف الانتظار الطويلة، وتحمّل المواعيد الكثيرة التي يجري تأخيرها.
"في مجمله، يشبه السياق رحلة موت شاقة، فالراكب لا يملك دورا ولا جسدا، والشركة هي المهيمنة الكلّية التي تلقيك في مكان توجهّك، كما لو كانت ساعي بريد. وبالمقارنة، يبدو القطار والباص وسائل نقل قديمة جدا، مدرجة في اكتظاظ العالم. الحرية تعاني نتيجةً للكمال، هذا هو ثمن الأمان (وهو ثمن نافع لدى إيزيجيت). إن شركات الكلفة القليلة، لووْ كوست، تقدّم نموذجا غير مسبوقٍ عن مجتمعاتنا، كونها تبتكر تقنياتٍ جديدةً لتكييف الراكب وتجهيزه، كما نحكي عن تكييف الدجاج وتجهيزه".
من الآن فصاعدا، بات الراكب مجهّزا ومكيّفا بما يتلاءم وشكل الطائرة ومتطلّباتها. عليه أن يتخّذ شكل الأبواب، الممرّات، المقاعد. وعلى متاعه أن يحترم المقاسات والأوزان والمعايير. جسمه أيضا مدعوٌ لأن يناسب المعدّل الاجتماعي المطلوب فلا يتعدّاه. على الراكب أن يجيد الردّ على الآلة، أن يحترم تعليماتها، يتفادى التعاطي مع الآخرين، أن يكون دقيقا، مستعدّا للتخلّي عن أغراضه الشخصية، طيّعا يرضخ للضرورات، وأن يتفادى طرح الأسئلة.
باختصار، عليه أن يكون لا شيء، أو كلّ شيء، باستثناء رحّالةٍ شغوفٍ وحرّ.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"