مغامرة فراس السواح

مغامرة فراس السواح

20 يناير 2019
+ الخط -
لم يكتف الباحث السوري، فراس السواح، بحقه في ممارسة حريته الشخصية في قبول أصدقائه في العالم الافتراضي (فيسبوك) أو رفضهم، وفق معايير يجدها مناسبةً يحتفظ بها لنفسه، بل أعلن عن أحدها في تعميمٍ نشره على صفحته الشخصية بقوله "أنا لا أقبل طلبات صداقة من المحجبات. حجاب الرأس يعني حجاب العقل"، مصدّراً بذلك حكم قيمة استفز عديدين من رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين واجهوه بسيلٍ من الانتقادات الحادّة، منها ما نسف التاريخ البحثي والفكري للرجل، واتهمه بالجهل، ومنها ما رأى في الرجل "أحد الدواعش العلمانيين". 
في غير مناسبةٍ، اعتبر مفكرون عرب الحجاب عائقا كبيرا بين المرأة ورفع مكانتها، وبالتالي عائقا بين الأمّة وتقدّمها، فأثار قاسم أمين (1863- 1908م) في كتابه "تحرير المرأة" ضجّةً كبرى، رأت فيه إهانة للأمة المصرية، حين قدّم الحجاب قيمةً سطحية، ونساء مصر جاهلاتٍ لا يعتنين بنظافتهن، وتساءل عن مستقبل مصر الذي لن يعدو أن يكون أمّةٌ متخلّفةٌ كسولةٌ بأمهات كهؤلاء. كما ذهب إلى أن العقول والأرواح في الغرب التي بهرت المصريين، واكتشفت قوة البخار والكهرباء، وسعت وراء المعرفة، لا ملذات الحياة، قد تخلت عن الحجاب، حين لم تر فيه فائدة.
ومع أن نساء مصر تدرّبن، في مدارس محمد علي، على الإسعافات الأوّلية، والتمريض، ودرسن في المدارس الابتدائية والثانوية. وبحلول القرن التاسع عشر، أصبحن طبيباتٍ، ومدرساتٍ، وصحفياتٍ، وكاتبات، إلا أن الحجاب أصبح أيضا رمزا لمقاومة الاستعمار، واعتبره مسلمون كثيرون حمايةً لنسائهم ومجتمعاتهم، ودلالةً على إسلام "صحيح". إذ لم يُجدِ مع هؤلاء للتخلي عن الحجاب، وغيره من رموزٍ اعتبرت حجابا للعقل والتقدّم، لا تحديث من أعلى، ولا علمنة للدولة ومؤسساتها من دون علمنة للمجتمع. العلمانية التي فرضت سياسيا بقيت بالنسبة لمعظم المصريين، وغيرهم من مسلمين، انطلاقا من عصر النهضة (وحتى اليوم) غريبةً وشاذّةً، واستمرت أنماط التديّن المختلفة تلبي حاجة ماسّة للاستمرارية، سيما في مراحل التحول المصحوبة بالاقتلاع، والزعزعة، وقلق الهوية المزمن.
يتفق صاحب هذه السطور مع الرأي أن الحجاب لم يكن عادةً أصليةً وأساسيةً في الإسلام، فلم يأمر القرآن جميع النساء بالحجاب، ولم يصبح عزل النساء في "الحرملك" عادة إلا بعد مُضيّ حوالي ثلاثة قرون على وفاة النبي، عندما قلد المسلمون مسيحيي بيزنطة، وزرادشتيّي فارس الذين ألزموا نساءهم بارتداء الحجاب. مع ذلك، كان الحجاب دلالةً على المكانة 
الاجتماعية، ارتدته نساء الطبقات العليا فقط. غدا الحجاب، عبر تنظيراتٍ فقهيةٍ، فريضة دينية، بعد أن كان مسألةً مدنيةً إجرائية، قُصِد منها تمييز الحُرّات من نساء المسلمين في يثرب لحمايتهن من تحرّش المنافقين.
ويخبرنا الجاحظ، في "رسالة القيان"، أمثلة عديدة لاختلاط الرجال والنساء ما قبل الإسلام وبعده، إذ لم يكن بين رجال العرب و"نسائها حجاب، ولا كانوا يرضون مع سقوط الحجاب بنظرة الفَلْتة، ولا لحظة الخلْسة، دون أن يجتمعوا عن الحديث والمسامرة... ويسمّى المولع بذلك من الرجال الزير، المشتقّ من الزيارة، وكل ذلك بأعين الأولياء وحضور الأزواج، لا ينكرون ما ليس بمنكر إذا أمنوا المنكر"، فالأصل في رأي الجاحظ إباحة الاختلاط، والمنكر كاستثناء لا يُبطل الأصل. ولم يُلغِ الحجاب الخاص بزوجات النبي، تكريما للنبي وتمييزا لنسائه، عُرْف العرب في الاختلاط، فبقيت "الشرائف من النساء يقعدن للرجال للحديث، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عاراً في الجاهلية، ولا حراماً في الإسلام"، لكن التشدّد به "أمر أفرط فيه المعتدون حد الغيرة.. فصار عندهم كالحق الواجب".
عاش الجاحظ في القرن الثالث الهجري، قبل أن تعكس مؤلفات الفقه في القرن التاسع هيمنة أولئك "المعتدّين حد الغيرة"، لا سيما كتابي جلال الدين السيوطي "إسبال الكساء على النساء" و"البعث"، الذي يؤكد فيهما على ضرورة إقصاء النساء عن فضاءات الرجال، ستراً لهن وحفاظاً على عفّتهن، بل يحسم موقفه بعد تردّد، ليذهب إلى أن المرأة من المحجوبين عن رؤية الله يوم القيامة، فيكون حجابها في الدنيا وسترها من باب أولى.
في مواجهة الحداثة، اعتنى المتديّنون الإسلاميون، معتدلين ومتشدّدين، عنايةً فائقةً بأدق تفاصيل اللباس والمظهر، وهو ما يفعله هؤلاء اليوم في عصر ما بعد الحداثة، فلا يقتصر لباس المرأة على كونه فريضةً دينيةً، بل تتسع دلالته، ليحوز بعداً وجودياً، ويصبح ركناً أساسياً من أركان التديّن الاجتماعي، فللباس، سواء تعلق بالرجل أو المرأة، سيمياؤه التي ترجع، في رمزيتها، إلى مقاصدَ دينيةً تعبّدية، وإلى حقيقةٍ تقع في صلب الانتماء الحضاري والتميز الثقافي المطلوب.
وفي ظل التطييف السياسي الذي يعصف بالمنطقة، يتحول الحجاب رمزا سياسيا، لا مجرّد رمز ديني، وهويةً يتمسّك بها المقتنع به وغير المقتنع، سواء بسواء. صحيحٌ أنه لا يمكن 
الانتقاص من حق التعبير السلمي عن الرأي، لكن رأيا في قضية كبرى لا يمكن اختزالُه في تعميم فيسبوكي، أما التعامل مع هذا التعميم بوصفه موقفا علمانيا فهو أدهى وأمرّ، فما هو إلا نسفٌ للعلمانية التي تتسع للمتدينين وغير المتدينين، في دولةٍ يتساوى فيها الطرفان في الحقوق والواجبات، وتتحقّق فيها الحرية وفق مبدئي المساواة والعدالة. وأن يسهم المثقف في خطابه، وبعد صمتٍ طويل، بجرعاتٍ إضافيةٍ من سوء الفهم الشعبي للعلمانية، بوصفها إقصاءً للدين عن المجتمع، فهو نوعٌ من التهوّر المعرفي، كما أن من المعيب أن يتورّط المثقف في خطاب إقصائيٍّ محايثٍ لما يحدث على الأرض.
تناول قضية الحجاب وتحرير العقل بهذا الشكل المبتسر، تعميما على مواقع التواصل الاجتماعي، يُبقيها ضمن دائرة الاستفزاز وردود الفعل الأكثر راديكاليةً. والأجدى دائما، تناولها بالتحليل العلمي الموضوعي، والبحث الجاد والموسّع الذي عوّدنا عليه فراس السواح، بربطها بقضايا التحرّر الاجتماعي بمفهومه العام والشامل الذي يتطلب مسيرةً طويلةً من ثوراتٍ اجتماعيةٍ، سياسيةٍ واقتصادية، خطت المجتمعات العربية المعاصرة على طريقها مغامرتها المتعثّرة الأولى.
يتورّط السواح في مغامرة غير محسوبة، وحسنا فعل حين حذف المنشور من صفحته الشخصية على "فيسبوك"، لعل ذلك يكون إدراكا منه لمحاذير تلك المغامرة، وليس مجرد انحناءٍ مؤقت أمام العاصفة.
حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.