الشعب طاغية

الشعب طاغية

20 يناير 2019
+ الخط -
لا يدري الرئيس من أين واتته فكرة "الاعتراف بالجريمة"، على الرغم من أنه يعزو جانبًا منها إلى صندوق الويسكي الذي عبّه تلك الليلة، وهو يفكّر بطريقةٍ مُثلى للخروج من الأزمة العالمية التي أثارتها قضية تقطيع المفرزة الأمنيّة، المكلّفة بمتابعة حركاته وسكناته على مدار الثانية الواحدة، أوصال معارضٍ، قبل أن يصدر إليها أمر الاغتيال منه شخصيًّا، بعد أن ضاق ذرعًا بشغب هذا المعارض الذي يرفض الخضوع لشروط الحظيرة.
والحال أن الرئيس لم يكن يعير بالًا للقضية كلها، بل كان يعجب من كونها "قضيةً" في الأساس، فما الذي يجعل من "نفوق" معارض "قضية"، وما الذي ستضيفه "جثة مفقودة" من أهميةٍ، تبيّن مصيرها أم لم يتبيّن. كان ممتعضًا من عالمٍ يقيم وزنًا عظيمًا للحياة، هو الذي ألغى عمليًّا الفرق بين الموت والحياة في بلده، فلم يعد يعرف المواطن إن كان حيًّا أم ميتًا.
على هذا النحو، مارس الرئيس أساليب "التطنيش" والمماطلة، مراهنًا أن العالم "الآخر" لا بدّ أن ينسى قضية هذا "النّافق"، وستشغلُه قضايا أزيد أهميّةً، غير أن مراهناته باءت بالفشل، وكان عليه أن يجد مخرجًا ما يحفظ عليه كرسيّه، ففكّر في بدائل متعدّدة، منها أن يزعم أن الاغتيال لم يكن مدبّرًا، بل حدث نتيجة "خطأ بشريّ"، أو "اجتهاد أمنيّ"، خصوصًا أن مثل هذه "الاجتهادات" لا حصر لها في بلده؛ لأن جماعته في الأجهزة الأمنيّة مغرمون بالخروج على النصوص، حين يتعلّق الأمر بالتعامل مع المعارضين، غير أنه طرد هذا المخرج من ذهنه، لأن الوقائع كلها كانت تشير بأصابع الاتهام إليه شخصيًّا.
أخيرًا، واتته تلك الفكرة الجهنمية: أن يقرّ بالجريمة.. وسيضمن إخراس هذا العالم الذي لم تعد له من قضيةٍ غير قضية هذا المعارض "النافق". وبعد أن استساغ الفكرة، أمر الرئيس بتشكيل لجنة تحقيقٍ صوريّة، لا تتألف إلا منه شخصيًّا، مع "طنطنةٍ" إعلاميّةٍ هادرة، بالطبع، لدراسة القضية، والوقوف على ملابسات الاغتيال، وتحديد المتسببين بها للاقتصاص منهم، إكرامًا لروح الضحية، وهو ما حدث. ولم يبق أمام الرئيس غير الإفصاح عن تقرير لجنة التحقيق، فاضطرّ فخامته مرغمًا أن يقتطع من سرديّة "ألف ليلة وليلة" التي كان يحياها يوميًّا، ليلة واحدة فقط، كي يدبّج البيان الذي سيقرؤه بنفسه أمام العالم. كانت ليلة عصيبة في حياة الرئيس، وهو منكبّ على البيان حذفًا وإضافة، إلى أن اطمأن أخيرًا إليه.
في اليوم التالي، كان فخامته خلف الميكرفون، يوزع الابتسامات البلاستيكية على الصحافيين، ثم تنحنح، وراح يقرأ: "أبنائي، إننا إذ نثمّن هذا الاهتمام العالمي المهول بمصير مواطنٍ من بلدنا، فإننا على ثقةٍ بأن ذلك ينبع من تقدير العالم الحرّ لنا، وهو تقديرٌ ما كان له أن يكون لولا السمعة الطيبة التي نحظى بها.
من هذا المنطلق، نجد لزامًا علينا أن نكافئ هذا الاهتمام، بجلاء ملابسات ما حدث لمواطننا المجنيّ عليه، والذي كان يحظى بكل أشكال الرعاية والتقدير في بلدنا، بما في ذلك تخصيص مفرزةٍ أمنيةٍ كاملةٍ تتابعه في كل تحركاته، لا لتضييق الخناق عليه، بل لحمايته من الغضب الشعبيّ، كونه من المنتقدين لنظام حكمنا، وهذا ما لم يكن يرضاه الشعب بالطبع.
وفي هذا الصدد، ينبغي أن أوضح للعالم الذي يتابعنا الآن أن ثمة صفاتٍ غير مرضية لنا في شعبنا هداه الله، فهو شعبٌ مستبدّ وطاغية، ويرفض الرأي الآخر. وكم حاولنا إقناعه بأهمية الحرية والتعبير عن الرأي، لكنه كان يرفض تمامًا هذا الأمر. ولذا كنا نضطرّ إلى مسايرته حفاظًا على وحدتنا الوطنية.
أما ما حدث في ذلك اليوم الفظيع، أعني يوم مقتل المعارض، رحمه الله، فقد كان يسير في أحد الشوارع، وخلفه المفرزة الأمنية المكلفة بحمايته، ففوجئت المفرزة بهجومٍ شعبيّ عارم عليه، وحاولتْ منعهم، لكنهم كانوا مسلّحين بالمناشير، فنشروه وفاضت روحه إلى بارئها.
وفي الخلاصة، تجد اللجنة الموقرة أن المتهم باغتيال معارضنا المرحوم هو هذا الشعب المستبدّ الطاغية.. وشكرًا لكم".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.