المعجم التاريخي للغةٍ تلاحق التاريخ

المعجم التاريخي للغةٍ تلاحق التاريخ

19 يناير 2019
+ الخط -
لا جدال حول أقدمية اللغة العربية على أغلب اللغات في عالمنا اليوم، وحول تميّزها باتصالٍ تاريخيٍّ ليس له مثيل، فقارئ العربية متوسط الثقافة يمكنه أن يقرأ شعراً كتبه المتنبي، أو نصاً فقهياً كتبه أحد الأئمة الأربعة قبل ألف عام، بينما يكاد يستحيل لمتحدّث الإنكليزية العادي فهم نصوص شكسبير.
لكن هذا القِدم بحد ذاته ليس مزيةً تُضاف للتفاخر العربي الأجوف بالأقدمية، وربطها بالأفضلية، ولا كذلك تعدّد المترادفات والمسمّيات للمعنى الواحد، كما يحلو لبعض آخر التفاخر بألعابٍ لغوية بائدة، فاللغات تكتسب أهميتها من قدرتها على تحقيق وظيفتها أداةً للتواصل والتوصيل، ولا مفر هنا من تطورها عبر الزمن، ومن المُنصف القول إن العربية قد أصابها في عصرنا ما أصاب ناطقيها.
ومن هذا السياق وغيره، تتأتى أهمية مشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، والذي يقدم لقارئ العربية سجلاً تفاعلياً حياً لتطور اللغة، والتوثيق العلمي لمعنى كل كلمةٍ في سياقها التاريخي.
وتعد المعاجم التاريخية في العالم أعمالاً تاريخية، حيث استغرقت معاجم لغات أخرى عقوداً طويلة من العمل المضني والإمكانات الكبرى، وهو ما يفسّر غيابها عن تراثنا، باستثناء محاولاتٍ لم تكتمل، فقد أغدق الولاة على شعراء المديح أو احتفى الملوك بإهداءات الكتب، ولكن قَلّ من يدعم مُنجزاً قد لا يشهد اكتماله.
ومن اللافت هنا أن معجم الدوحة قد اتخذ مساراً راسخاً ومنفصلاً عن الأحداث السياسية التي تضرب المنطقة، فالمعجم الذي تم الإعلان رسمياً عن إطلاقه في مايو/ أيار 2013، واصل فريقه العمل بهدوء، حتى تم إطلاق المرحلة الأولى منه في الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، لتغطي 700 عام من تطور اللغة، من خمسة قرون قبل الهجرة حتى 200 عام بعدها، ومن المتوقع أن يستغرق إجمالي العمل 15 عاماً، حسب تصريح للمدير التنفيذي للمشروع، عز الدين البوشيحي.
وحسناً فعل فريق المعجم الذي يعمل فيه عشرات الباحثين، إذ أتاح للقارئ كمّاً ضخماً من البيانات المنهجية في مقدمته، ودليله المعياري، وقرارات لجنته العلمية، وبها طرحت بصراحة كل الإشكالات التي قد تدور في ذهن المتخصص من قبيل: ما هي منهجية توثيق المصادر التاريخية، والتي شملت النقوش الصفوية والثمودية وغيرهما؟ ما هي آلية اختيار نسخةٍ معينةٍ من ديوان شعر جاهلي؟ لماذا اخترتم هذه الطريقة في ترتيب المداخل؟ كيف تعاملتم مع إشكاليات كثرة البدائل والجموع، وتشتت ألفاظ الأسرة الواحدة؟ ماذا عن تقدير الجذور والتغلب على المتداخل والمُقترض فيها؟
كما تُشكر لصانعيه العناية بالإطار كالمحتوى، فلم يصبح المعجم مجلداتٍ ضخمةً في مكتبة، بل موقعاً إلكترونياً متاحاً مجاناً لكل قارئ، وإن كانت هنا ملاحظةٌ تكرّرت حول إلزام الموقع للقارئ بالتسجيل قبل إظهار أي نتيجة بحث، وهو ما قد يكون من الأفضل إعادة النظر فيه، لمزيد من تسهيل الاطلاع للهواة وغير المتخصصين، فضلاً عن إتاحة ظهور النتائج في محرّك بحث "غوغل" كما يحدث في معاجم أخرى.
وعلى الرغم من أن البحث في المعاجم يعد عملاً نخبوياً، إلا أن نتائجه، على المدى الطويل، ليست كذلك، فحسم معنى اللفظ في سياقه التاريخي يمنح رجال الدين والقانون فهماً للمقصود لدى معاصريه، ما يمنع اللبس أو التعسّف، كما أن مشاهدة سجل عملي لتطوّر لغتنا، ودخول ألفاظ جديدة عليها، وتفاعلها مع لغات أخرى (وقد قام المعجم بتوثيق الأصول اللغوية المختلفة) وتطور معاني ألفاظ قديمة، يفتح باب تطويرها اليوم، ليتسع حاضرها، كما اتسع ماضيها.
وإذا كان حلم الوحدة العربية، بصورته القومية، قد استحال مسخاً مثيراً للرثاء أو السخرية، وصارت شعارات "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" لا تذكّرنا إلا بالدماء التي أريقت ظلماً تحت رايتها، فإن تقارباً ثقافياً قوامُه لغة مفتوحة على التطوّر، قد يكون حجراً إضافياً في بناء تقاربٍ على مصالح سياسية واقتصادية مختلفة وواقعية، لجيل تجمعه أحلام الحرية وآلام الحيرة والأذى.