مشاهد دولة السيسي الفاشية

مشاهد دولة السيسي الفاشية

18 يناير 2019
+ الخط -
كتبنا وتحدثنا كثيرا عن مشاهد الظلم في دولة الخوف الفاشية البوليسية، سواء تعلق الأمر بالمجازر التي ارتكبها عبد الفتاح السيسي على نحو مبكر، بعد قيامه بالانقلاب، ما أدّى إلى مقتل أعدادٍ تصل إلى الآلاف، وانتقل بعد ذلك إلى أشكالٍ من القتل خارج إطار القانون، وإلى التصفية الجسدية والمطاردات اليومية، فضلا عن آلافٍ كان مصيرهم الاعتقال، وآلاف آخرين ذهبوا إلى المنافي في بلادٍ شتّى، ومارست أيضا تلك الدولة الفاشية ممارساتٍ تتعلق بالاختفاء القسري والتعذيب؛ أشارت إلى ذلك مؤسساتٌ دولية غير حكومية، تهتم بحقوق الإنسان، مثل منظمتي العفو الدولية وهيومن رايتس وواتش، فضلا عن مؤسساتٍ دوليةٍ تابعة للأمم المتحدة، كلجان حقوق الإنسان ولجان مناهضة التعذيب.. كل تلك المشاهد، كما قلنا وكتبنا، عبّرت عن مؤشراتٍ لدولةٍ بوليسيةٍ فاشية، جعلت من المؤسسة التشريعية أداةً لتشريع قوانين، تبرّر تلك الأفعال، وتتيح للدولة البوليسية القيام بها، ومؤسسات قضائية تمثل مرفق العدالة، اختطفت هي الأخرى، لتكون أداةً لبطش المستبد، مارست ألوانا من الظلم والجوْر في صور شتى، حتى صار القضاة يتلهون بأحكام الإعدام بأعدادٍ فاقت المئات، فضلا عن محاكم عسكرية ومحاكم أمن دولة؛ نصبت شباك ظلمها، لتمارس جوْرا بالجملة في أحكامٍ لا تتسم بالمعقولية أو المقبولية. لا شك أن المنظومة الانقلابية شيدت دولة الخوف والظلم بكل معنى الكلمة، واختطفت المؤسسات التي جعلت للدفاع عن مصالح الشعب، أو المؤسسة القضائية التي كانت ملاذا لعموم الناس، لتتحول إلى مؤسساتٍ تشرّع الظلم، وتقنن الجور، فبدلا من أن تقيم دولة العدل والإنصاف، أو تقوم بجوهر وظائفها، قرّرت أن تقوم بعكس تلك الأدوار، بممارسة أشكالٍ من صنوف الجور والإجحاف. وقد كتب صاحب هذه السطور عن هذه المشاهد في مقالات كثيرة، ولكن دولة الظلم والفاشية لا تقف عند حد، وليس لها من سقف. تمارس صنوفا من الظلم، مستهينةً بالإنسان، وحرمة كيانه وكرامته وحريته في قوله وفعله وتنقله. وتاليا أربعة مشاهد وقعت، استكمل بها ذلك النظام الفاشي معظم مؤشرات ظلمه وطغيانه.
المشهد الأول.. تتفنن "دولة الجباية" في فرض الضرائب، وأنواع من الأتاوات ما أنزل الله بها من سلطان. عبر عن هذا التفنن وزير المالية في النظام الانقلابي المصري، في تصريح له 
أخيرا، قال فيه إن إيرادات الضرائب ومدخولاتها إنما تمثل أكثر من 75% من الإيرادات العامة للدولة. ويحمل هذا التصريح في طياته عنوانا يتأكد فيه معنى الظلم، بفرض ضرائب شتى، ورسوم ومكوسٍ لا حدود لها، حتى تفنن هؤلاء في جباية الأموال والضرائب وتمويل أشكالٍ من التفنن في الترف الزائد والبذخ الفائض. ودولة الجباية، على ما يؤكد ابن خلدون، في مقدمته، لا تقوم بالجباية لتأدية خدماتٍ، أو لتحسين مستوياتٍ، بل هي لا تهتم بسد حاجات الناس في معاشهم وضروراتهم، بل تقوم بذلك، وهي تعلم أن ذلك يسهم في إحكام حلقة الإفقار في بر مصر، وزيادة عدد من هم تحت خط الفقر من المعدمين. لكن دولة الجباية تجبي ما تجبي، حتى تموّل صنوفا من ترفها وتبالغ في إنفاقها. ومع تمدّد مساحات الجباية، واتساع ساحات البذخ والترف، تتزايد شبكات الفساد، ويتراخى الناس في أعمالهم بما عبّر عنه ابن خلدون من انقباض الناس في الأعمال خصوصا، مع يقينهم أن الجباية ستأكل ربح كل عمل، بل تأكل أصل المال، فلا جهد مقدّرا لهم، ويتفشّى عند أهل السلطان، ومن يخدمهم من بطانتهم حال الاستيلاء على الموارد والأموال، فتزيد البطالة وتتراكم، وتُحكم الحلقات لظلم مقيم واستبداد عميم.
المشهد الثاني هو مشهد الحاكم بأمره الذي يصدر الفرمانات والقرارات، الواحد تلو الآخر، لينسج شباك ظلمه، فتحيط بالناس جميعا، فحتى هؤلاء الذين يقومون على خدمته من كبار الموظفين والمسؤولين لن يفلتوا من سهامه، بمن فيهم رئيس وزرائه ووزراؤه وكبار رجالات دولته الفاشية، فإذا به يصدر قرارا قالوا إنه لتنظيم سفر كبار المسؤولين، وهو في حقيقة أمره ليس إلا تقييدا لحريتهم في التنقل والسفر، "فلا سفر لهم إلا بإذنه". وعلى هؤلاء، مهما علت وظيفتهم أن ينبطحوا تماما أمام ممتثلين في تلك القرارات، فينفذوها صاغرين، وليس لديهم من تعقيبٍ إلا قول "آمين". لم لا، وقد تجرّأ المستبد الفاشي على كل شيء، ليوجه إلى كل هؤلاء رسالة، إلى الذين يدعمونه ويساندونه قبل هؤلاء الذين يخالفونه ويعارضونه، "أنتم في قبضة يميني"، "إن قلت تحرّكوا فلتتحركوا"، "وإن منعتكم من الحركة فانبطحوا وامتثلوا". إنها رسالة المستبد، حينما يرى في نفسه إلها أو شبه إله يمنع ويمنح، يحكم ويتحكّم، يسيطر ويهيمن، فهو لا يرى في نفسه إلا أنه "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون".. ما بال هؤلاء يرضون بحبسهم، ومنع انتقالهم، مخالفة لحق إنساني تأسيسي بحرية التنقل والانتقال، فالدولة، بموظفيها وبمن عليها في قبضته وملك يمينه، يفعل فيها ما يشاء، ويحجر على حريتهم ما أراد، ويمنع سفرهم وانتقالهم ما قرّر، تحت دعوى تنظيم سفرهم.
المشهد الثالث يتعلق بتصريح عجيب وغريب في دولةٍ تعاني من الشح المائي، ففي عاصمته
 الإدارية التي شيدها، بقصورها المتعالية وأسوارها العالية، في تلك المنطقة الخضراء التي تحاكي مناطق يحتمي بها أهل السلطة، فينفصلون عن عموم الناس، قرّر بعضهم أن يشقّوا ما سموه النهر الأخضر في صحراء، قرّروا أن يبنوا فيها ذلك الحصن، ليحتمي فيه أهل العصابة.. لا ندري، هل يتحسّبون لثورة شعبٍ، فيحسبون أنهم "ما نعتهم حصونهم"، أو أنهم يترفعون أن ينخرطوا مع عموم الناس من الدهماء، لا ندري ما السبب؟ ولا نعرف كيف سيشق نهرا أخضر في تلك المنطقة الخضراء من العاصمة الإدارية، إلا أن يكون ذلك عملا يريدون به أن يكتمل لحصنهم، ليضمنوا به صنوف ترفهم في حصنهم الكبير. والحق أقول إن تلك الفلسفة التي تتعلق بمفهوم المنطقة الخضراء والنهر الأخضر إنما تعبر عن محاولة لاصطناع بيئةٍ تأمن فيها العصابة، وما بذلك يتحقق التأمين لهم، ولا يتحقق الأمن من الثورة عليهم. الأساسي هو في تحصين شأن الناس ومعاشهم في قراهم ومدنهم بالعدل الواجب والإنصاف الشامل (حصنها بالعدل).
المشهد الرابع في تلك المنطقة النائية المعروفة بالعاصمة الإدارية، والتفنن في شؤون الترف، أن تلك المدينة سيكون فيها أكبر مسجد وأكبر كاتدرائية، لكنهم نسوا أن أماكن العبادة هي للعباد، ولا يمكن أن تكون أو تعمّر إلا بهذين، فمن المؤسف حقيقةً أن يُنقل الناس من أماكن سكنهم وعمرانهم ومواطنهم إلى تلك الأماكن الفارغة، في مشهدٍ غير بريء، ينبئ عن عسكرة دور العبادة، وبوجه خاص عند الافتتاح في صلاة جمعة، أن يجلب من العساكر وقد ارتدوا زيا رياضيا موحّدا أجلسوهم في الأرض، ليصلّوا بالأمر، حتى المسجد لم يسلم من عسكرتهم، وكأن من لزوم استكمال الديكورات التي تتعلق بالعاصمة الإدارية الجديدة أن يبنى أكبر مسجد وأكبر كاتدرائية. يقول مؤيدوه إنه يفعل ذلك تعبيرا عن وحدة الجماعة الوطنية بين مسجدٍ وكنيسة، ولكنه عسكر كل شيء، فليجلب المصلين بالأمر، وليرتدوا زيا موحدا بالأمر، ويصلوا الجمعة بالأمر.
هذه المشاهد الأربعة إنما تدل على مجتمع الفاشية والعسكرة والتحكم والهيمنة في "دولة السيسي" بعد الانقلاب.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".