"عميل روسي" في البيت الأبيض!

"عميل روسي" في البيت الأبيض!

18 يناير 2019
+ الخط -
لم تستفق واشنطن بعد من هول الصدمة التي أحدثها تقرير صحيفة نيويورك تايمز، يوم الجمعة الماضي، والذي كشف أن مكتب التحقيقات الفدرالي (إف. بي. آي) سبق له أن فتح تحقيقا بشأن الرئيس دونالد ترامب بشبهة العمالة لروسيا. للمفاجأة هنا أوجه عدة، أهمها، أولا، أن من تحوم حوله الشبهات هو رئيس الولايات المتحدة الأميركية نفسه، رأس هرم السلطة التنفيذية، والذي تقع وزارة العدل ومكتب التحقيقات تحت سلطته. ثانيا، هذه هي المرة الأولى التي يشار فيها إلى ترامب، شخصيا، مشتبها به في موضوع التواطؤ المزعوم مع روسيا خلال الانتخابات الرئاسية عام 2016، وليس حملته الانتخابية، كما جرت العادة، أو مسؤوليها، والذين دين عدد منهم في قضايا مختلفة، ولا يزال بعضهم يخضع للتحقيق في هذه القضية. ثالثا، أن تقرير الصحيفة لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى أن ملف الشبهة قد طوي، حيث تم نقل الملف من "إف. بي. آي" إلى المحقق الخاص، روبرت مولر، والذي لا يُعرف على وجه الدقة ما إذا كان تابع التحقيقات في المسألة.
في التفاصيل، يذكر تقرير الصحيفة أن مسؤولين في "إف. بي. آي" شعروا بالقلق، بعد أن أقدم ترامب في مايو/ أيار 2017 على إقالة مدير الجهاز، جيمس كومي، ولمّح ترامب نفسه إلى أن سبب إقالته الرجل مرتبط بالتحقيق في مزاعم التواطؤ بين حملته الانتخابية وروسيا. وحسب كومي، فإن ترامب طالبه، في أحد اللقاءات التي جمعتهما، بعد أن أصبح رئيسا، بتقديم "ولاء شخصي" له، كما طلب منه إنهاء التحقيق بشأن مستشاره الأسبق للأمن القومي، مايكل فلين، وهما الأمران اللذان رفضهما كومي. بقية القصة معروفة، فقد انتهى الأمر بفلين مطرودا من إدارة ترامب، ومُدانا قضائيا الآن، بتهمة الكذب على محققين فدراليين في قضايا مختلفة، منها اتصالات أجراها مع السفير الروسي السابق في واشنطن، مباشرة بعد إعلان نتائج 
الانتخابات أواخر عام 2016، أي قبل تسلم إدارة ترامب الحكم رسميا، ومحاولة الالتفاف على العقوبات التي فرضتها إدارة باراك أوباما على روسيا. بعد طرد كومي، نظرت وحدة مكافحة التجسس في مكتب التحقيقات في القضية من زاويتين، الأولى جنائية، لناحية ما إذا كان طرد كومي قد تمَّ بهدف "عرقلة العدالة" في تحقيقات مزاعم وجود تواطؤ بين حملة ترامب وروسيا في الانتخابات الرئاسية. والثانية بهدف مكافحة التجسس، خشية أن يكون الرئيس الأميركي "يعمل بقصد لصالح روسيا، أو أنه وقع دون قصد تحت تأثير موسكو". وحسب التقرير، فإن وحدة مكافحة التجسس الأميركية خشيت أن تكون تصرفات ترامب تمثل تهديدا للأمن القومي الأميركي.
ليس سرا أن مزاعم وشبهات كثيرة ثارت، منذ أكثر من عامين، حول العلاقة الملتبسة والغامضة بين ترامب وروسيا، وتحديدا مع الرئيس فلاديمير بوتين. لفت ترامب أنظار الأجهزة الأمنية والاستخباراتية منذ كان مرشحا، وذلك عندما دعا في شهر يوليو/ تموز 2016 روسيا إلى قرصنة بريد منافسته الديمقراطية، هيلاري كلينتون، ونشره على الملأ. كانت تلك الأجهزة تراقب بقلق علاقاتٍ واتصالاتٍ مشبوهةً بين مسؤولين في حملة ترامب وشخصياتٍ يُعتقد أنهم عملاء لروسيا. ولذلك فتحت "إف. بي. آي" حينها تحقيقا في المسألة، من دون الإعلان عنه، حتى لا تتهم بمحاولة التأثير على الانتخابات. وتضاعف قلق الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأميركية، بعد أن خفف الحزب الجمهوري من حدّة موقفه من روسيا في برنامجه الانتخابي بضغط من ترامب، والذي لم يكن يتورّع في خطاباته عن تأكيد نظرته الإيجابية إلى روسيا وبوتين. ثمَّ كان هناك الملف الذي قدمه عميل استخباراتي بريطاني سابق، سجل فيه مزاعم عن محاولات روسية للتأثير على ترامب، والسيطرة عليه عبر ابتزازه ورشوته.
على الجانب الآخر، لم يُقَصِّر ترامب ومحيطه في بث الروح في تلك المزاعم، بل وتعضيد بعضها. من ناحيةٍ، فإن مسؤولين كبارا في حملته الانتخابية لا يزالون محل تحقيق في قضية التواطؤ مع روسيا في الانتخابات. إلا أن هذا كله يتضاءل أمام تصرفات ترامب وأفعاله في هذا السياق. من ذلك، مثلا، أنه، ومنذ تسلمه الرئاسة مطلع عام 2017، رفض فرض عقوباتٍ على روسيا بسبب تدخلها في الانتخابات الرئاسية، والذي تؤكد الأجهزة الاستخبارية الأميركية وقوعه. وأمام تعنّته فقد مرّر الكونغرس تشريعا لفرض عقوباتٍ عليها، ولم يجد ترامب بدا من توقيع القانون في أغسطس/ آب 2017، ذلك أن أغلبية أعضاء المجلسين في الكونغرس، النواب والشيوخ، كانوا مع المشروع، وبالتالي لم يكن "فيتو" رئاسي سيجدي نفعا. المفارقة هنا أن مجلسي الكونغرس حينها كانا تحت سيطرة الجمهوريين، أي من حزب الرئيس، إلا أن ترامب، ومنذ ذلك الحين، رفض أي محاولاتٍ للضغط عليه، لفرض عقوباتٍ إضافية على روسيا.
أيضا، صدم ترامب واشنطن بالطريقة التي ظهر عليها في مؤتمر صحافي مشترك مع بوتين في العاصمة الفنلندية، هلسنكي، في يوليو/ تموز 2018. كانت سيطرة بوتين الواثق بَيِّنَةً في كل التفاصيل، في مقابل ترامب المهزوز، إلى درجة تأييده موقف بوتين الرافض للنتائج التي خلصت إليها الاستخبارات الأميركية مجتمعةً أن روسيا حاولت التأثير على الانتخابات الرئاسية لصالح ترامب، وهو ما عدّته الغالبية في النخبة السياسية الأميركية، وفي الإعلام، أمرا "غير وطني" من ترامب، بل ويصل إلى حد "الخيانة". وفي الأيام القليلة الماضية، ثار الجدل مجدّدا حول التقاء ترامب بوتين بوجود مترجم فقط من الجانب الأميركي، من دون أي مسؤول آخر، الأمر الذي كان محل نقد كبير في قمة هلسنكي. الجديد هنا أن هذا الأمر تكرّر غير مرة، وأن ترامب كان يأخذ الملاحظات التي يدوّنها مترجمه، ويأمره بعدم اطلاع أي مسؤول آخر في الإدارة على فحوى المحادثات، وهو ما اضطر المسؤولين في الإدارة إلى محاولة معرفة ما جرى في لقاءات ترامب - بوتين الخاصة عبر المعلومات التي تحصل عليها الاستخبارات الأميركية من التجسّس على الروس.
جمع معارضو ترامب كل تلك القرائن، وغيرها كثير، وربطوها بكثير من سياساته غير 
المفهومة، والتي يعارضها الجمهوريون والديمقراطيون، فضلا عن معارضة مؤسسات "الدولة العميقة"، كما يسمّيها ترامب، لها، على أساس أنها تصبّ في صالح روسيا. من ذلك، مثلا، تهديده بالانسحاب من حلف شمالي الأطلسي، وتوتير العلاقات مع الحلفاء، كما الاتحاد الأوروبي وكندا وألمانيا، وتأييده بريطانيا وحضها على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وقراره في ديسمبر/ كانون الأول 2018 الانسحاب من سورية، على الرغم من معارضة وزارتيّ الدفاع والخارجية ومجلس الأمن القومي.. إلخ. لم تُحدث سياسات ترامب تلك شرخا في العلاقات الأميركية – الأوروبية – الأطلسية فحسب، بل تسببت كذلك في دعواتٍ من دول أوروبية، كألمانيا وفرنسا، لتشكيل جيش أوروبي، لتلاشي ثقتهم بالولايات المتحدة.
المعطيات السابقة، وهي أدلة ظرفية لا قطعية، دفعت كثيرين إلى التوجس من أن روسيا قد تكون نجحت في زرع "عميلٍ" لها في قمة هرم السلطة الأميركية متمثلا بالرئيس نفسه. ولعل في استدعاء بعضهم أفلاما هوليودية قديمة، تفترض غسل جهاز المخابرات السوفييتي، (كي جي بي)، أدمغة مواطنين أميركيين، وزرعهم في قلب مؤسسة الحكم الأميركية، ومحاولة الدفع بهم إلى مراكز متقدّمة في الدولة، بما في ذلك الرئاسة، ما يلخص تعقيد الأزمة التي تعيشها واشنطن اليوم. هذا لا يعني أن ترامب عميل لروسيا فعلا، ولكن ثمّة تساؤلات مشروعة عن سلوكه حيالها وعن بعض سياساته التي لا يمكن تفسيرها ضمن منظومة المصالح الأميركية، كما تقاربها مؤسسة الحكم. وفي كل الأحوال، تمثل رئاسة ترامب تحديا حقيقيا للديمقراطية الأميركية ومؤسساتها، سواء أكان الرجل متآمرا أم أن "الدولة العميقة" هي المتآمرة عليه، كما يقول أنصاره.