قدمٌ هنا وقدمٌ هناك

قدمٌ هنا وقدمٌ هناك

17 يناير 2019
+ الخط -
عاد الجدل بشأن الحريات الفردية إلى النقاش العمومي في المغرب، على خلفية نشر صور نائبةٍ من حزب العدالة والتنمية، من دون حجاب في باريس. قامت الدنيا ولم تقعد على مواقع التواصل الاجتماعي طوال الأيام الماضية، وأحدثت الواقعة ارتجاجا في الحزب الإسلامي الذي يقود الحكومة منذ 2011، واصطفافاتٍ داخل الرأي العام، بين من أيّد حريةَ المعنية بالأمر في ارتداء الحجاب أو خلعه، ومن اعتبر سلوكها تعبيرا صارخا عن ازدواجية الخطاب لدى الإسلاميين المغاربة.
وبقدر ما يحيل هذا التقاطب على التوترات المعيارية والقيمية الكبرى التي يعيشها المجتمع المغربي، بقدر ما يحيل، كذلك، على حالة الشرود التي يعيشها حزب العدالة والتنمية على أكثر من صعيد، وهي حالةٌ تترجم غياب القدر الكافي من الخبرة لديه في تدبير التناقضات التي يفرزها جدل الدعوي والسياسي في العمل العام.
كيف يمكن فهم واستيعاب دفاع زعيم الحزب السابق، ورئيس الحكومة السابق، عبد الإلـه بنكيران عن النائبة، مُستقيـا لغته من المعجم الحقوقي الكوني، وهو نفسه الذي طالب قبل سنوات خلت، حين كان نائبا ، بطرد مصورةٍ من قاعة البرلمان بسبب ارتدائها ملابس ''غير محتشمة''، لا تختلف كثيرا عن التي كانت ترتديها النائبة في باريس؟
يندرج اللباس ضمن حزمة الحريات الشخصية التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وما تفرّع عنه من مواثيق واتفاقيات معروفة. وحين يختار الواحد منا الانحياز لاجتهادات مغايرة في هذا الشأن، فالإعلان نفسه يحفظ له حقه في ذلك، من خلال حرية التفكير والرأي التعبير، لكن وضع قدم هنا وقدم هناك يسائل مصداقية الخطاب والسلوك ويضعها على المحك.
يصعب علينا، مثلاً، أن نقبل، أخلاقيا وسياسيا، أن يأتي زعيم حزب يساري راديكالي ويبيعنا الوهمَ بكلامٍ عن كفاح العمال والكادحين ومعاناتهم وجشع رجال الأعمال، في وقت يعيش فيه حياة مخمليةً ومترفة. قد نقبل ذلك من الناحية الحقوقية الصرفة، على اعتبار أن ذلك شأنه الخاص، لكن خطابه يضعنا أمام مفارقاتٍ دراماتيكيةٍ بشأن ازدواجية خطابه الفكري والسياسي. ولعل القياسَ يكاد يكون ذاته في حالة النائبة المعنية التي عُرف عنها ارتداؤها الحجاب، فيما تقوم به من عمل عام داخل الحزب والبرلمان وغيرهما.
لعل أحد أسباب الأزمة التي تعيشها النخب الحزبية المغربية، والعربية عموما، افتقادها ذلك الحس الذي يجعلها على درايةٍ بثقافة المجتمع وتوتراته الكبرى، وبإيقاع التحولات التي تعرفها بنياته ومؤسساته. ولا مبالغة في القول إن هذا الحس يشكل عصب الثقافة السياسية، وأحد مداخل تجديد الممارسة السياسية وتطويرها. بهذا المعنى، فدلالات صور النائبة في باريس، من دون حجاب، تتجاوز الشق الحقوقي الصرف، لتشتبك بأسئلةٍ كثيرةٍ يطرحها المغاربة بشأن التناقضات التي يعرفها خطاب الحزب الإسلامي وأداؤه.
في مجتمعاتنا التي لم تحسم في خياراتها الفكرية والثقافية والقيمية، يقترن اقتحام العمل العام، في أذهان الناس، بما يُسوَّقُ لهم من أفكار وخطابات، وأي هفوةٍ، مهما بدت بسيطة، قد تفسر بأنها تناقض بين الخطاب والسلوك. ولذلك تجد رجال السياسة، في البلدان المحترمة، حريصين على تجنب الشبهات المالية والأخلاقية، وتقديم صورةٍ إيجابية لهم أمام من انتخبوهم ووضعوا ثقتهم فيهم، بما يجعل العمل العام، في النهاية، تكليفا وعبئاً على من يمتهنه، وليس مغنما.
يرى بعضهم أن حزب العدالة والتنمية يقود الحكومة في المغرب، وعينُه على ما تعرفه المنطقة من متغيراتٍ نتيجة ما آل إليه الربيع العربي. وبالتالي، هو يجتهد ويُسابق الزمن من أجل تطبيعٍ كاملٍ لعلاقته مع المواقع المؤثرة داخل السلطة قبل انتخابات 2021. وضمن هذا الاجتهاد، تندرج هذه الازدواجية التي تسِم خطابه السياسي، بيد أن هذا يحتاج مراجعاتٍ فكريةً وسياسيةُ، تترجم احترامَ الحزب من أعطوه أصواتهم في الحواضر والمدن الكبرى. وهي المراجعات التي يُفترض أن تنصبّ على تدبير علاقة الدعوي والسياسي داخل الحزب، وليس الالتفاف عليها وتعويمها في استغباءٍ للرأي العام المغربي.
وإذا كان حزب العدالة والتنمية يبحث عن صيغةٍ مغربيةٍ تؤالف بين الإسلام السياسي والديمقراطية، في مسعىً إلى ضخ دماء جديدة في السياسة المغربية، فالأولى أن يكون ذلك بإعادة تحديد هويته الفكرية والسياسية، وإعادة النظر في علاقته بجناحه الدعوي المعلوم.