العقل المليشياوي.. فالج لا تعالج

العقل المليشياوي.. فالج لا تعالج

16 يناير 2019
+ الخط -
عود على بدء! هناك من يعتقد ربما أن اللبنانيين قد نسوا عصر المليشيات والعبث في حياتهم، فقرّر أن يعيد تذكيرهم بذلك الزمن الرديء والأسود الذي سادت فيه فوضى السلاح والقتل المجاني والخراب والدمار وسقوط الدولة، فقد عادت بالأمس بقايا فلول مليشيا حركة أمل إلى شوارع بيروت، لتذكّر اللبنانيين بماضيها المجيد في زمن الحرب الأهلية، ويعيث شبانها فساداً بكل ما يصادفونه باسم الإمام المسكين "المغيب"، موسى الصدر، وانتقاماً له من قاتله أو مغيّبه، لا فرق، معمر القذافي، الذي أطاحته الثورة الشعبية أواخر عام 2011. وعلى الرغم من أنه قد مضت أربعون سنة على اختفاء الصدر في ليبيا (1978)، إلا أن هذه المسألة تحوّلت إلى طقسٍ لدى هذه الحركة الشيعية التي يتزعمها رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه برّي، تتم ممارسته في كل مرة يراد فيها إيصال رسالة ما أو فرض واقع ما على الساحة الداخلية، أو تناغماً مع حسابات ومصالح خارجية. كما أن الدولة الليبية، بحد ذاتها، تحولت، على ما يبدو، إلى هدف ثابت تتم تعبئة العامة الشيعية ضده بشكل دائم، موسمي وغب الطلب. إذ إن حجة اجتياح مليشيا "أمل" شوارع العاصمة اللبنانية كانت رفضاً لمشاركة ليبيا في القمة العربية الاقتصادية التي ستعقد في بيروت في 20 يناير/ كانون الثاني الجاري، انطلاقاً من إصرارها على معرفة الذي ما زالت تعتبره الحقيقة غير المكشوفة في قضية الصدر.
وقد قرّر زعيم حركة أمل التصعيد، وهدّد بـ "6 فبراير" ثانٍ في حال تمت دعوة ليبيا. وتاريخ 6 فبراير/ شباط يعود إلى عام 1984 يوم تحدّى برّي حكم الرئيس الأسبق، أمين الجميل،
بإيعاز من النظام السوري، وخاض معركة إخراج الجيش اللبناني من ضاحية بيروت الجنوبية التي أصبحت اليوم معقل حزب الله. واللافت أن برّي تقصد أن يكون واضحاً في تهديده، عندما أكد رداً على سؤال أن "6 فبراير سيكون سياسياً وغير سياسي". ويبدو أن التعليمات كانت واضحةً للتحرّك الفوري، بدليل أن عناصر مليشيا الحركة باشروا على الفور إحراق أعلام ليبيا ورفع صور الصدر وبرّي وأعلام "أمل" في شوارع بيروت، وما جاء على لسان بعض نواب الحركة من تهديد وجد طريقه فوراً إلى التنفيذ، من خلال منع السلطات الأمنية في مطار بيروت وفداً من رجال الأعمال الليبيين القادمين للمشاركة في القمة من دخول الأراضي اللبنانية. وكانت النتيجة أن قرّرت الحكومة الليبية مقاطعة القمة الاقتصادية احتجاجاً. والغريب أنه سبق أن شاركت ليبيا القذافي، عبر وزير خارجيته، في القمة العربية في بيروت عام 2002، ويوم كانت الوصاية السورية في أوجها. علما أن السلطة (أو السلطات) الليبية الحالية لا علاقة لها بحكم القذافي البائد، لا بل إن من في الحكم اليوم هم الذين ثاروا على سلطة الحكم السابق واستبداده، ولا علاقة لهم بقضية خطف الصدر وإخفائه. عدا أن مسألة المشاركة من عدمها ليس لبنان من يقرّر فيها، لأن دوره هو استضافة القمة وتنظيم عقدها، بموجب قرار من جامعة الدول العربية، وليس للجامعة في هذه الحالة أن تقرّر عدم مشاركة ليبيا التي هي عضو كامل الحقوق، مثله مثل أي دولةٍ عربية أخرى، بعكس ما هو عليه وضع سورية التي تم تجميد عضويتها في نهاية 2011 إثر الانتفاضة الشعبية على حكم بشار الأسد، غير أن المفارقة في أن برّي هو أول المطالبين بضرورة دعوة سورية إلى القمة، وبالتالي من حيث المبدأ قدوم الأسد إلى بيروت، وهو المتهم بتدبير عشرات الاغتيالات لسياسيين لبنانيين وقادةٍ لانتفاضة 14 شباط 2005، والذي أرسل رئيس جهاز مخابراته اللواء علي المملوك الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة صيف 2012، مدجّجاً بالمتفجرات لاغتيال سياسيين ورجال دين، بينهم البطريرك الماروني بشارة الراعي. وهنا أيضاً لا يحق للبنان أن يوجه الدعوة، لأن سورية خارج جامعة الدول العربية، وقرار إعادتها أو مشاركتها يعود إلى الجامعة، بشخص وزراء الخارجية العرب. ويلتقي مع برّي في المطالبة بدعوة سورية إلى القمة حزب الله بطبيعة الحال، وكل الذين يدورون في فلك النظام السوري.
ليست هذه المرة الأولى التي تخرج فيها مليشيا برّي إلى الشارع، فهي أصلاً لم تغادره بالكامل، بدليل جهوزيتها في أي لحظة، وعندما يلزم الأمر بالسلاح. فهذا يحصل دورياً، منذ ما بعد انتهاء الحرب الفعلية على الأرض، ولكن من دون أن تغادر عقول (ونفوس) كثيرين من زعماء المليشيات الذين استولوا على السلطة في زمن السلم. ولكن مليشيا أمل (مع حزب الله) هي التي ثابرت على ممارسة هذا الدور في مراحل مختلفة، وتحديداً بعد اغتيال رفيق الحريري في 2005. يومها تقدّم حزب الله، وتصدى لدورٍ كهذا، لكي يملأ الفراغ الذي تركه خروج الجيش السوري من لبنان. فتشكل "الثنائي الشيعي" ميدانياً، وكان احتلال وسط بيروت في نهاية 2006 بالتوافق والتنسيق بين الحزب والحركة، واستمر الاحتلال سنة ونصف السنة. ثم جاءت غزوة بيروت في 7 مايو/ أيار 2008، عندما اجتاح حزب الله العاصمة، وسيطر على أحياء وشوارع الشق الغربي منها، وتكفلت "أمل" بدور "تنظيف" الأزقة والزواريب الضيقة 
التي تعرفها جيداً بفعل ضلوعها في معارك الحرب الأهلية بين 1975 و1990. وفي العام الماضي، نزل رجال الحركة بسلاحهم الى الشارع، وهاجموا المركز الرئيسي للتيار الوطني الحر (العوني)، رداً على اتهام رئيس التيار ووزير الخارجية، جبران باسيل، رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، بأنه بلطجي، وكادوا أن يتسببوا بحرق المركز وإيقاع ضحايا، وهناك وقائع كثيرة مماثلة. وفي 2011، عندما أسقط حزب الله حكومة سعد الحريري، وأراد قطع الطريق على عودته، وفرض نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة، نشر عناصر مسلحة باللباس الأسود، عرفت بـ"القمصان السود" في شوارع بيروت، لإرهاب زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، النائب وليد جنبلاط، وإجباره على تسمية ميقاتي رئيساً للحكومة، بدلاً من الحريري، وهذا ما حصل.
إنه العقل المليشياوي، الجاهز دائماً لإسناد الخيار السياسي. وهذه المرّة، فإن بيت القصيد بالنسبة لبرّي من وراء شن الحملة على ليبيا هو إيقاع "عصفورين بحجر". الأول، وهو الأساس، تسجيل هدف في مرمى رئيس الجمهورية، ميشال عون، بإفشال عقد القمة العربية الاقتصادية في بيروت، كفصل من مسلسل الحرب المتناسلة بين الطرفين. والهدف الثاني ترميم العلاقة مع النظام السوري التي كانت فاترة جداً منذ اندلاع الثورة في 2011، عبر محاولته الضغط على الحكم، لكي "يبيّض وجهه" مع الأسد. وهذا مطلبٌ يعرف العقل المليشياوي نفسه جيداً أنه ليس في متناول رئيس الجمهورية الذي لا يعارض ذلك، لا بل إن رئيس التيار العوني يريد إعادة سورية إلى جامعة الدول العربية، في أسرع وقت، لأنه يتوهم أن إعادة الإعمار مسألة قريبة، وهو بالتالي طامعٌ في الحصول على "حصة من الكعكة".
وهكذا، تُترك الدولة في لبنان فريسة لشريعة المليشيات، وتتلهى الطبقة السياسية بحروبها الصغيرة، وترتضي أن تكون أدواتٍ في الحروب الإقليمية.
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.