السلطة الدينيّة أعلى..

السلطة الدينيّة أعلى..

16 يناير 2019
+ الخط -
شهد عام 2018 المنتهي ارتفاعًا كبيرًا في عدد حوادث الإرهاب اليهودي في أراضي الضفة الغربية، والتي يعتبرها جهاز الأمن الإسرائيلي العام (الشاباك) بمنزلة "جرائم قومية متطرّفة" لا أكثر. ووفقًا لمعطياته، ارتفعت هذه الحوادث بثلاثة أضعاف خلال 2018، مقارنة مع 2017، وشملت اعتداء المستوطنين وناشطي اليمين على الفلسطينيين، ورشق الحجارة، وتخريب بيوت وسيارات وقطع أشجار، وعادة ما كانت تُرافق برشّ شعارات "تدفيع الثمن". ونسب الجهاز نفسه انخفاض الحوادث في 2016 و2017 إلى تداعيات العملية الإرهابية في قرية دوما الفلسطينية التي قتل فيها مستوطن إسرائيلي ثلاثة من أفراد عائلة دوابشة حرقًا، وإثرها اعتقل "الشاباك" كثيرين من ناشطي ما تسمى "مجموعة التمرّد"، وهم من عصابات اليمين، واتخذ خطوات ضدهم يُعتقد أنها عزّزت الردع في مقابلهم، غير أنه في العام 2018 رُفعت هذه الخطوات، وظهرت مجموعاتٌ جديدة، ما تسبّب بازدياد حوادث الإرهاب، كما ذُكر سالفًا.
وتنتمي مجموعات الإرهاب الجديدة إلى ما يُعرف في القاموس الإسرائيلي باسم "شبيبة التلال". وتفيد عدّة أبحاث، نُشرت في إسرائيل خلال الأعوام الأخيرة، بأنّ جماعات "شبيبة التلال" التي نفّذت عمليات الإرهاب اليهوديّ في الأعوام القليلة الفائتة تشكّل الجيل أو الرعيل الثالث من المستوطنين الكولون في أراضي الضفّة الغربيّة، لكن سلوكها وتوجّهاتها الفكريّة مغايرةٌ، بصورة كبيرة، للتوجّهات الفكريّة لآبائها الذين أسّسوا منظّمة "غوش إيمونيم".
بموجب بعض هذه الأبحاث، يسعى أفراد هذه الجماعات إلى الانفصال عن الأجهزة التربويّة القائمة، وإلى الاعتزال في قمم تلال فارغة في الضفّة الغربيّة التي يسمونها يهودا والسامرة. وهم لا يقبلون بسلطة الدولة، ويتمسّكون بأفكار غيبيّة متطرّفة. وتُعدّ هذه التوجّهات داخل التيّارات اليهوديّة، الأرثوذكسيّة عامّة والصهيونيّة الدينيّة خاصّة، أرضًا خصبة لنشاط "حركات جبل الهيكل" التي تعمل على إعادة بناء "الهيكل اليهوديّ" في الحرم القدسيّ الشريف. ويوجّه معظمهم انتقاداتٍ شديدةً إلى أداء "مجلس المستوطنات" في الضفة، وإلى الحاخامين اليهود، وبالأساس على خلفية تنفيذ خطّة الانفصال عن قطاع غزّة في صيف 2005، ويؤكّدون أنّهم فقدوا الثقة بهم.
في موازاة ذلك، تشير نتائج أحد هذه الأبحاث إلى توجيه "شبيبة التلال" انتقادات شديدة إلى المؤسّسات القانونيّة والسلطويّة، من جهة، وإلى تفضيلها تعليمات الحاخامين المتطرّفين، من جهة أخرى. وبالتالي، بالإمكان الاستنتاج أنّه تجري بين مجموعة معيّنة منها عمليّة انتقال من التعامل الرسميّ مع الدولة ومؤسّساتها إلى التعامل الدينيّ الصِّرْف، وعمليّة تفضيل الحُكم الدينيّ الثيوقراطيّ على الحُكم الديمقراطيّ، الهشّ أصلًا.
ولهذا الاستنتاج أهمّيّة بالغة، في ضوء حقيقة أنّ الصهيونيّة الدينيّة رفعت راية الدمج بين الدين والدولة. وتُجْمِع هذه الأبحاث على أنّ خطّة الانفصال المذكورة، التي طَرَحت بقوّةٍ المعضلةَ التي تنشأ عندما يتعارض القانون الدنيويّ مع القانون الدينيّ، جعلت جزءًا من أبناء "شبيبة التلال" يرى السلطة الدينيّة أعلى من السلطة القانونيّة الدنيويّة.
ثمّة مسألة أخرى هي أن التعامل مع حوادث الاعتداء لم يصل، على نحو متعمّد، إلى درجة اعتبارها إرهابًا، كما أن مرتكبيها يحظون، حتى طبقًا لما يكتبه محللون أمنيون كثيرون، بتسامح القضاة الذين يقلّلون من قدْر أعمالهم، ويفرجون عنهم، أو يحكمون عليهم بعقوبات طفيفة، ويحظون بعجز الشرطة والجيش. وتساهم الصحف الإسرائيليّة بأن تتبنّى مغسلة كلام المستوطنين الذين يسمّون هذه الأعمال "تدفيع الثمن"، كما لو أنّ الحديث يدور حول مادّة استهلاكيّة في حانوت، لا حول إرهابٍ بكلّ ما في الكلمة من معنى.
وقبل نحو خمسة أعوام، أعلن الرئيس الأسبق لجهاز الشاباك، كرمي غيلون، أنّ في وسع هذا الجهاز وضع حدّ لهذه الحوادث في غضون فترة وجيزة، إذا اتّخذت المؤسّسة السياسيّة الإسرائيليّة قرارًا يقضي بمكافحتها، أسوة بأيّ عمليّات أخرى ذات طابع إرهابيّ. والأهم أنه شدّد على أنّ مكافحة هذه العمليّات لم تفلح حتّى الآن بسبب عدم وجود أي نيّةٍ حقيقيّةٍ لمكافحتها.

دلالات