هيمنة السياسي على الثقافي

هيمنة السياسي على الثقافي

14 يناير 2019
+ الخط -
يتصف الواقع العربي بهيمنة المعطى السياسي على الثقافي، ويبدو ذلك جلياً في بنيات نمط تفكيرنا ومقاربتنا الأزمات والنزاعات والتباينات الاقتصادية والاجتماعية، إذ غير خاف أنّ المسألة غير مقبولة ومنبوذة لكنها، منطقياً، عادية باعتبار مستوى التنمية الذي بلغناه.
ينتظر من السياسي كشف الغمة وفك لغز مجمل مشكلات البلد وإحداث التغيير في وقت وجيز وبجرة قلم، متجاهلين بنيات ثقافية تشكلت عقودا متتالية، وأفرزت أنماط فكر متقادمة، وربما متناقضة ورافضة فكر الحداثة. ومما لا مرية فيه أن السياسي يعلو تراتبية كل السلطات، وتجده أينما حللت وارتحلت إلى درجة احتكار كل ما هو اقتصادي واجتماعي، وحتى ثقافي. نتحدث هنا عن نموذج شاذ للسياسي الذي يضع اليد على كل شيء، ويتدخل في جميع التخصّصات، ويبدي الرشد في مختلف القضايا، ويشكل أهم عائق أمام قيام وسيادة ثقافة المؤسسات. والأدهى من ذلك هو تسخير كل شيء لخدمته وللحفاظ على امتيازاته ومركزه ووضعه الريادي الاعتباري، فيطغى الاحتكار الاقتصادي، وتعطل المبادرات الفردية، ويتم الإجهاز على الفكر السياسي والتعددية، ويوظف كل ما هو أيديولوجي لتمرير كل ماهر نفعي، إذ لا غرابة، إذن، أن تقدّس المصلحة الشخصية على المصلحة الجماعية، وأن يسود منطق العائلة والزاوية والقبيلة على منطق الوطنية.
باختصار، غالبا ما يبطن واقع استئثار السياسي بالحاضر عملية إقبار الماضي، بإدراك أو غير إدراك، فيغدو المستقبل عقيماً والعيش ضنكاً.
من مظاهر طغيان المعطى السياسي على الثقافي، نذكر شيوع الجمود وغياب الحركية والخلق والإبداع، وتسخير عملية الاجتهاد الفقهي لمصلحة السياسي، وصناعة الفكر والثقافة بالكيفية التي تخدم الاستبداد السياسي، عبر تكريس الشعبوية والجهل والسطحية، وتعطيل عملية إحياء الموروث الثقافي، تبعا لمبدأ الانتقائية النفعية والمصلحة الآنية، فالاعتقاد في الخرافات والطلاسم والابتعاد عن العلم والمنطق، وتهميش أهل العلم والحكمة، بهدف الحفاظ على البنيات الثقافية السائدة وعدم محاولة تغييرها باعتبارها مقدسات، والتأسيس لكيانات سياسية مبنية على العصبية القبلية والانتماء العائلي.
يبدو جليا أن هذه المدخلات لا تنتج إلا مخرجات الفقر والبؤس والتخلف بجميع مظاهره ووأد بوادر انبعاث النهوض والبناء.
في المقابل، نتوق إلى العيش في بنية ثقافية يمثل السياسي فيها أداة تعبير وانعكاس لثقافة يسودها العلم والمعرفة والذوق الرفيع في الفنون والآداب، وتتخللها ممارسة سياسية سليمة داخل مجتمع مدني قوي، حيث توّظف كل مقومات البلد لخدمة المصلحة العامة، ثقافة تسودها حركية العمل الجاد وتقدس مكارم الأخلاق والمعاملات، وتحتوي نزعات الفردانية والأنانية والطموح الشخصي لخدمة المجموعة ككل.
يبدو أن الأمل بعيد المدى، لكننا نعيش في أحضانه، وتحت رحمة الإيمان بصناعة تحقيقه.
عزيز أشيبان
عزيز أشيبان
عزيز أشيبان
كاتب مغربي، يعرّف عن نفسه بالقول "نوعية اهتماماتك ومخاوفك تحدّد هويتك".
عزيز أشيبان