"مش كله صابون"!

"مش كله صابون"!

14 يناير 2019

(عمران يونس)

+ الخط -
في عدد مجلة "شعر" البيروتية رقم 22 الصادر عام 1961، وفي زاوية "أخبار وقضايا"، تشنُّ الشاعرة العراقية الرائدة، نازك الملائكة، هجوماً عنيفاً على المجلة التي تسمّي، في رأيها، النثرَ شعراً، وترى في إطلاق هذه التسمية تعبيراً عن "شعور أولئك المطلقين بالنقص أمام الشعر الحقيقي (...)، كما أن هذا الإطلاق تحقير للشعر واللغة العربية والجماهير العربية وللأمة العربية"!
هذا ما تورده الناقدة المرموقة خالدة سعيد في كتابها "يوتوبيا المدينة المثقفة"، من دون أن تتوقف طويلاً عند هذا الهجوم الكاسح، ولكنها تبيِّن لنا سببه: فقد تناولت خالدة، في عدد سابق، كتاب محمد الماغوط "حزن في ضوء القمر"، وسمَّت نصوص هذا الكتاب (المثير والفريد من نوعه حينها) شعراً، على الرغم من أنها (نصوصه) لا تتوافر على وزن أو قافية، وهما علامتان رافقتا القصيدة العربية، ودلَّتا عليها حتى تلك الفترة التي كتبت فيها الملائكة رسالتها الغاضبة إلى المجلة البيروتية. ويبدو أن نازك التي تراوح موقفها بين التجديد والمحافظة، ظنَّت أنَّ خالدة سعيد قد وصفت نصوص كتاب الماغوط، إياه، بأنها "قصائد نثر" وحسبتها، بالتالي، على الشعر الذي له عندها، مهما تحدَّث وتجدَّد، علاماتٌ فارقةٌ لا يكون من دونها أهمّ تلك العلامات: الوزن (التفعيلة في أقصى درجات التجديد!).
ما يهمني، هنا، ليس غضبة الملائكة المُضَرية، بل ردّ "شعر" الذي جاء في الباب نفسه من دون توقيع، وإنْ أرجِّح أنَّه بقلم أدونيس الذي اهتمَّ، في تلك الفترة، مع أنسي الحاج بـ"التنظير" لقصيدة النثر. والردُّ: "قصيدة النثر شعر، لا نثر جميل، وأنها مكتملة ككائن مستقل وحيّ لا يقبل غير تسميته (...) إن خالدة سعيد سمَّت "حزن في ضوء القمر" شعراً، ولم تسمّه قصائد نثر، فلِمَ تبنَّت نازك الملائكة تسمية قصيدة نثر، ثم راحت تهاجم هذه التسمية على أنها من ارتكاب خالدة سعيد".
وأخيراً يقرّر كاتب الردِّ على نحو حاسم: "إنتاج الماغوط في "حزن في ضوء القمر" شعرٌّ حرٌّ وليس قصائد نثر"! ليس هناك أوضح، بما تعنيه قصيدة النثر ولا أكثر قطعا بما كتبه محمد الماغوط الذي أخرجه رد مجلة شعر من دائرة قصيدة النثر، ووضعه في دائرة أوسع: الشعر.
ستمرُّ نحو أربعة عقود على ذلك التأكيد الحاسم، الواعي في آن، بأنَّ ما يكتبه الماغوط يوضع في خزانة "الشعر الحر"، وليس في خزانة قصيدة النثر، من دون أن يجري أي نقاشٍ عربي جدّي حول مصطلح قصيدة النثر، فلم تترك تلك الفقرة الواردة في ردِّ مجلة "شعر" (مغفلة التوقيع) حول الفارق بين قصيدة النثر والشعر الحرّ أثراً على مصطلح "قصيدة النثر" الذي كان يشهد، في تلك الفترة، خطواته الأولى على أرض الكتابة الإبداعية العربية، ولن يوجِّه ذلك الوعي الذي بدا في ثنايا ردِّ المجلة على نازك الملائكة، "قصيدة النثر" العربية في الاتجاه الذي كان ينبغي أن تسلكه. صارت قصيدة النثر، بالممارسة العامة، على غرار ما كتبه الماغوط. هذه هي قصيدة النثر ولا شيء غيرها.
وقعتُ، مثل غيري، في هذا الالتباس الذي جعلنا نكتب قصيدةً لها شكل قصيدة "التفعيلة"، وتقطيعها إلى أبيات على الصفحة، ولكن من دون وزن، ونسميها "قصيدة نثر". رافقني هذا الالتباس حتى بدأت كتابة ديواني "حياة كسرد متقطِّع"، في أواخر القرن الماضي، وصدر في عام 2004، طارحاً علي، وربما على الشعرية العربية، سؤالاً لم يبرح مذ ذاك: أهذه قصيد نثر، أم أقاصيص؟ شعر، أم حكايات مبتسرة؟ لم يكن سهلاً تقبُّل نصوص هذا الديوان باعتبارها قصائد، وقصائد نثر بالتحديد، لأن للشكل السائد لقصيدة النثر العربية هيئة قصيدة التفعيلة تماماً. نثريتها، عند من يكتبونها، تأتي من غياب الوزن ليس إلا، غير أن هذا ليس فارقاً جوهرياً يميز بين القصيدتين. ليس في هذا، فقط، يكمن النثر الذي تتطلبه قصيدة النثر. لأن الأخيرة ليست قادمةً من التراث الشعري التقليدي، أو لنقل المتعارف عليه، فهي ليست ابنة قصيدة التفعيلة، ولم تتحدَّر منها، مثلما تحدَّرت قصيدة التفعيلة من القصيدة العمودية. كلا. إنها جنس أدبي مستقل، قائم بذاته. وهذا واقعها في الشعريات الغربية التي اقتبسنا منها مصطلح "قصيدة النثر"، الأمر الذي لاحظه ردّ مجلة "شعر" على نازك الملائكة بخصوص قصائد الماغوط.
لم تسمّ أي شعرية في العالم "الشعر الحر" قصيدة نثر. لم يحصل هذا قط. إنَّه التباس عربي خالص، وسوء فهمٍ لم يجد من يصحّحه، في وقته، على الرغم من المداد الغزير الذي سُفِحَ في الدفاع عن "الشعر الحر"، أو الهجوم عليه، الأمر الذي يفترض (في المدافعين على الأقل) معرفةً بما يعنيه مصطلح "الشعر الحر" ذو الأصل الأوروبي، شأنه شأن قصيدة النثر. ولكن قد يختصر الالتباس المشار إليه القول الشائع: كله عند العرب صابون!
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن