ثلاثون يوماً في إسطنبول

ثلاثون يوماً في إسطنبول

14 يناير 2019

مشهد عام أمام متحف أيا صوفيا في اسطنبول (8/1/2018/الأناضول)

+ الخط -
لم أملك سوى الابتسام بمرارةٍ، عندما قال لي محمد بيه، صاحب الفندق الصغير الذي يواجه مقهاه مسجد السلطان أحمد (المسجد الأزرق) بلغة إنكليزية مكسّرة، متوهماً مجاملتي: ليس جميعهم سيئين، هناك عرب جيدون بطبيعة الحال! يأتون إلى إسطنبول من كل البلاد العربية، ينعشون الاقتصاد، ويحرّكون عجلة الحياة، يزرعون الشعر، فيما نساؤهم يجرين عمليات تجميل أنوفهن. تستطيعين رؤيتهم في كل مكان، في الساحات والأسواق، يتجوّلون متدثّرين بالمعاطف الثقيلة، اتقاءً لبرد إسطنبول الذي لا يرحم، وآثار المشارط واضحة على جلود رؤوسهم المسلوخة، وأنوفُ النساء تبدو طريفةً بحلّتها الجديدة، مغطّاة بجبائر صغيرة، مثبتة بالشرائط الطبية على عرض وجوههن، لكن ذلك لا يمنعهم من التسوّق إلى آخر ليرة، وكأن بلادهم فارغة قاحلة، يشترون كل شيء، العقارات والسيارات والمحال التجارية، وكل أصناف الحلوى والثياب والسجاد والجلود والمجوهرات والأدوات الكهربائية والتحف والتوابل وأنواع الشاي. يرتادون المطاعم والمقاهي، ويلتقطون الصور والفيديوهات للصبيان الذين يبيعون البوظة، مصاحبةً حركاتٍ بهلوانيةً تجذب الصغار والكبار. يقبلون بشهيةٍ عاليةٍ على المأكولات التركية الشهية، أنيقة الإعداد والتقديم، ويختتمون بأطباق البقلاوة الساخنة مع كوب شاي ثقيل. 
أضاف بلهجة غاضبة: اعذريني، لكن بعضهم سيئ جدا، ولا يتمتع بالكياسة. يأتون هنا فقط من أجل استخدام الإنترنت مجانا، ولا يحلّلون جلستهم في المكان، حتى بطلب فنجان قهوة، ما يضطرني إلى معاملتهم بخشونةٍ حتى يغادروا. سامح الله أتاتورك الذي فوّت علينا تعلّم اللغة العربية، كي نقف على نيات هؤلاء المتذاكين. معقولٌ أن لا ندرك لغة ديننا الحنيف، ونعتمد على التراجم التركية السيئة التي تقلب المعنى أحيانا، كما أخبرني أحد العارفين باللغة العربية. لاذ بالصمت، حين انطلق صوتا مؤذني مسجد السلطان أحمد وآيا صوفيا، معلنين موعد أذان الظهر في اللحظة ذاتها، في تناوبٍ موسيقيٍّ جماليٍّ متناغم فريد وساحر، يجعل روحك تسكن، وأنت تصيخ السمع بانتباه.
غادرت مقهى محمد الذي يشكو الضجر، ويبدده بالثرثرة مع العابرين، مبتلعةً بعض الإهانات العنصرية التي تفوّه بها ببراءة مطلقة، لم ترتب أي أحقاد. مواصلة طريقي إلى "آيا صوفيا". انتظمت بضع دقائق في طابور طويل، يغطي مساحة كبيرة من الساحة، بشرٌ من شتّى بقاع الدنيا، يشكل العرب الذين يتحدّثون مختلف اللهجات نسبة كبيرة. الكل متلهفٌ لدخول الكنيسة البيزنطية البديعة التي تحولت مسجدا، قبل اعتمادها متحفا عالميا، يحكي قصة تحفةٍ معماريةٍ مذهلة، لا يعتبر التجول في جنباتها، في زيارة سابقة ذريعةً لعدم تكرار التجربة. تملكّني الملل، وقرّرت تأجيل الزيارة إلى موعد مبكر، تخف فيه وطأة الانتظار. قلت لنفسي إن لديّ متسعا من الوقت. ثلاثون يوما وقت طويل، سيكون هناك متسع لزيارة كل المواقع المهمة على مهل. تجولت في الساحة، وصولا إلى الباب العالي. كان الطابور متعدّد الجنسيات أكثر اكتظاظا. غادرت المكان نزولاً باتجاه السوق الكبير.. عالم ثري، مكتظٌ فسيحٌ، ألوان بضائع زاهية تغريك بالاقتراب والتأمل. روائح توابل وعطور تستفزّ حواسّك مجتمعة. أصوات باعةٍ وأفواجٌ سياحيةٌ يقودها أدلاء يحملون راياتٍ بألوان صاخبة، تضمن عدم توهان أحد من المجموعة في الزحام. عائلات زائرة أنهكها الجوع، من جرّاء التجوال الطويل.
اختيار واحد من تلك المطاعم الشعبية التي تعرض أطباقها على الواجهات الزجاجية ساخنة متنوعة، تنبعث منها الأبخرة، وشبانٌ وظيفتهم حث المارّة على الدخول، معدّدين مزايا الأطباق المعروضة. لدينا شوربة عدسٍ شهية، وكل أنواع الكباب. هناك أطباق المحاشي والبرغل المطبوخ بالبندورة، والأسماك الطازجة الشهية، وأرغفة خبز التنور الساخنة تحتل مداخل المطاعم، تستدرج الجوعى إلى المآدب، متقنة الصنع أنيقة التقديم. ينتقل صخب الحياة إلى روحك التي تحتشد بالبهجة على نحو مفاجئ، ويحرّضك للمضي في درب الدهشة. تخترق السوق باتجاه السوق المصري، إلى أن يواجهك البوسفور بسفنه المتنقلة جيئة وذهابا في المضيق، تحفّها النوارس على الجانبين، في دعوةٍ لا يمكن مقاومتها، فتنضم، من دون تخطيط مسبق، إلى أفواج الذاهبين في رحلاتٍ صغيرةٍ إلى جزرٍ ليست بعيدة.
المكوث في إسطنبول تجربة استثنائية حمّالة أوجه، لذا قد يكون للحديث بقية.

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.