احتجاج السوريين المؤجل

احتجاج السوريين المؤجل

14 يناير 2019
+ الخط -
يلاحظ في الآونة الأخيرة ارتفاع أصوات الاحتجاج الشعبي، وانتشارها الواسع، في الداخل السوري، في مناطق سيطرة النظام بسبب ضنك العيش، ويشارك في حملة الانتقاد والاحتجاج على صفحات "فيسبوك"، وهو الأداة الأكثر انتشارًا بين السوريين، فنانون كبار وإعلاميون وشخصيات عامة، وتصبح الانتقادات أكثر حدّةً، فتطاول الحكومة والوزراء... والحكومة، إضافة إلى عيوبها الكثيرة، من حيث كفاءات أعضائها أو آليات عملها البيروقراطية الفاسدة، فهي لا تملك أدوات ولا موارد، والقرار ليس بيدها، بل تنتظر توجيهات القصر. ولكن السلطة السورية اعتادت أن تجعل الحكومة ممسحةً، يفرغ فيها المواطنون غضبهم، وحائط صدٍّ، كي لا يقتربوا من صاحب القرار. ولكن الرسائل التي توجه إلى الرئيس مستغيثة هي نوع من الإشارة بالإصبع إلى مسؤوليته عن تلبية مطالب تلك النداءات التي لا تزيد عن تأمين المازوت والغاز والكهرباء ورغيف الخبز والدواء وضبط الأسعار وزيادة الرواتب، وغيرها من مستلزمات الحياة، وهي طلباتٌ يعجز عنها الرئيس والحكومة والنظام، ويتوقع أن يزداد عجزه مستقبلاً. وللمقارنة، يذكر السوريون سنوات الجفاف 2006 - 2009 التي أصابت سورية، وخصوصا المناطق الشرقية، حيث هجر مئات آلاف السوريين قراهم من منطقة الخابور خصوصاً، من دون أن تقدم الحكومة أو الرئيس أي شيء للمنكوبين، على الرغم من أنها كانت مشكلة أصغر بكثير من الكارثة الحالية.
تجمل الناس داخل مناطق سيطرة النظام بالصبر سنوات، معزّين أنفسهم بالحرب الدائرة على أمل الفرج القادم بعدها. ولكن ها هي رقعة الحرب تتراجع، وتقترب من أن تحطّ رحالها، ولكن الذي يظهر من تحت جليدها الذي بدأ بالذوبان، أزمة مستمرة، بل تزداد تفاقمًا وستزداد. لذلك 
يلاحظ اليوم أن الرغبة في الهجرة استمرت، بل تزداد في بعض المناطق، بعد أن تبيّن لهم أن انتهاء الحرب لن يأتي بالسلام والاستقرار وفرص العمل والإنتاج والرخاء، وأن الأفق مسدودٌ ضمن كل هذه التعقيدات السياسية وصراعات الآخرين على أرضهم، وانقسام السوريين إلى مجتمعيْن متعارضيْن، مجتمعي الموالاة والمعارضة.
لم يدرك السوري داخل مناطق النظام أن الحرب، على الرغم من ويلاتها، كانت بقرةً حلوبًا على نحو ما، وخصوصا للنخب الممسكة بمقاليد الأمور، فقد كانت سلال المساعدات ورواتب فصائل المعارضة تدفع بالدولار، وكانت هذه الدولارات تبدّل بالليرة السورية، فتزيد الطلب عليها، وترفع أسعار صرفها في مقابل الدولار. ولكن مع توسع سيطرة النظام على مناطق واسعة، توقفت هذه الرواتب، فتراجع الطلب على الدولار، فارتفعت أسعار الصرف، بينما اتسعت أعباء النظام مع توسع رقعة سيطرته، ويُتوقع أن يرتفع سعر الصرف، على الرغم من مساعي البنك المركزي للحفاظ عليه في حدود مضبوطة، لما لارتفاعه من أثرٍ سلبي، وقد نجح المركزي بهذه المهمة، بسبب عدة عوامل، منها ما ذُكر أعلاه، إلى جانب الدعم الإيراني، وأسباب أخرى لا مجال للخوض فيها هنا. ولكن سيكون من الصعب على المصرف المركزي السوري النجاح في هذه المهمة مستقبلًا، خصوصا وأن توسع مناطق سيطرة النظام تزيد الأعباء على موازنته العامة، في ظروفٍ يصعب فيها زيادة الموارد، وقد لجأ النظام أخيرا إلى زياداتٍ في الضرائب، لكن الوعاء الضريبي الذي تفرض عليه الضرائب محدود، ولن يؤمّن للخزينة موارد تستحق، بعد تدمير القاعدة الإنتاجية وتحويلها إلى خدمة الحرب. وقد أدت مجمل ظروف الحرب إلى تدمير قوى الإنتاج، سواء توجيه الأموال نحو تمويل الحرب بدلا من الاستثمار، وتدمير الاقتصاد، بقطاعاته المختلفة، وتحوّله إلى اقتصاد حربٍ مستهلك غير منتج، وتدمير البنية التحتية، وتدمير المباني، وتدمير المعدات والمصانع، وتخريب الزراعة. والأهم أن الحرب أدّت إلى اختفاء قوة العمل، وخصوصا من الشباب الذين التهمت الحرب مئات آلافٍ منهم، ومئات آلافٍ هاجروا إلى الخارج، ومئات آلاف تخفّوا هربًا من ملاحقتهم، للالتحاق بصفوف الجيش، إضافة إلى مئات الآلاف الذين ما زالوا مجندين إلزاميين في الجيش وأجهزة الأمن والدفاع الوطني والمليشيات الخاصة، إضافة إلى فصائل المعارضة، فلم تبق قوة عمل للإنتاج. وتعاني الصناعة من شح قوة العمل، إضافة إلى ظروفها الأخرى، مثل عدم توفر الكهرباء أو "الفيول"، لتشغيل معاملهم وارتفاع أسعارها والرشاوى ومنافسة البضائع المهرّبة، ومثلها الزراعة التي لا تتوفر مستلزماتها، وهذا كله يقلّص موارد الخزينة، ويقلص إيجاد فرص عمل جديدة، تؤمن دخولًا جديدةً.
تهدد كل هذه الظروف بارتفاع أسعار صرف الليرة السورية مقابل الدولار إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، ما سيزيد الحياة صعوبة في داخل سورية، ويجعلها أكثر قسوةً من أيام الحرب التي كانت تعمل كأنها مسكن آلام، خصوصاً أن انتهاء الحرب سيؤدي إلى توقف مساعدات الأمم المتحدة، والتي تقدر بنحو ملياري دولار سنويًا، وقد كان معظمها يصل إلى مناطق النظام. إضافة إلى استمرار ارتفاع مستويات الفساد والجريمة والعنف وانتشار المخدرات والدعارة وسهولة انتهاك كرامة المواطن، مما يهوي بنوعية الحياة.
النظام في حيرة، فإيران لا تستطيع المساعدة أكثر، وروسيا ليست مستعدةً لدفع أي أموالٍ للمساعدة، وغاز شرق المتوسط الذي أثار النظام زوبعةً حوله، ووضع أمل الناس به، وأنه سيجعل سورية دولةً غنيةً، حسب تطمينات عماد فوزي الشعيبي وناصر قنديل، سيحتاج سنوات قبل أن يبدأ استثماره، فالروس أصحاب أول امتياز للتنقيب في المياه الاقتصادية السورية لم يفعلوا شيئًا يذكر حتى الآن، ولا يعرف حجم الاحتياط والإنتاج المتوقع بعد. لذلك يأمل النظام أن يعيد سيطرته على مناطق سيطرة قوات حزب الاتحاد الوطني، الكردي، (بي. واي. دي) في محافظات دير الزور والرقة والحسكة وريف حلب الشرقي، في حال انسحاب الأميركان من 
المنطقة، حيث يمكن أن يعيد تشغيل حقول النفط في الحسكة، وينتج ما لا يقل عن مائة ألف برميل من النفط، تسد جزءا من حاجته. أما حقول دير الزور، فقد تم نهب معدّاتها وتخريبها، من الفصائل ثم جبهة النصرة ثم داعش التي سيطرت عليها سنوات، وتحتاج إعادتها إلى الإنتاج عدة مليارات من الدولارات، وهي غير متوفرة. من جهة أخرى، يأمل النظام، بمساعدة روسيا، أن يلَين موقف بعض دول الخليج وأوروبا، كي تسهم في مساعدته، وفي إعادة الإعمار من دون ربطها بأي حل سياسي أو ترتيبات سياسية، إذ يرفض النظام تقديم أي تنازلٍ عن كل شيء أو لا شيء، أيا كان الوضع، فالسلطة الكاملة أولًا. ولذلك، لا يتوقع أن يحقق نجاحًا يغير في الواقع الصعب كثيرًا، فبدون حلٍّ سياسيٍّ لا علاج للكارثة السورية.
لتغطية كل هذا الخراب، يبث الإعلام الحكومي والموالي إعلاناتٍ عن إقامة أبراج سكنية "مشروع ماروتا سيتي" في دمشق في منطقة الصبارة شرقي المزّة، بعد أن تم تهجير سكانها وتحويلهم إلى لاجئين منذ سنوات، وحرمانهم من أي حقوق، ويملك مشروع ماروتا أحد "بارونات" الحرب الجدد (سامر فوز). ويبدو أنه واجهةٌ لجهة ما. وهذه الأبراج الفاخرة موجهة إلى نخبةٍ من أثرياء الحرب الجدد، بينما نحو 12 مليون سوري مهجر في الداخل والخارج ومنازلهم المهدمة كليًا أو جزئيًا لا يدخلون في خطط أعمال النظام، فلا يبرز سوى أبراج ماروتا الفاخرة التي تبث إعلاناتها في كل مكان من سورية، وهو سلوك يشبه من يسكب زجاجة عطرٍ على جسمه، كي يغطي على رائحة القذارة التي تنبعث منه.