"عكروت" في الماء العكر

"عكروت" في الماء العكر

13 يناير 2019
+ الخط -
من حسنات الماء العكر أنه يكشف الصيادين المتشدقين بالمبادئ والشرف، على غرار روسيا التي كانت تدّعي مقاومة الإرهاب في سورية، بتمكين نظام الطاغية، ثم شدّت رحالها إلى السعودية، لإنقاذ طاغية آخر متورّط بتقطيع صحافيّ، بعد أن رأت أن الماء بينه وبين أميركا قد تعكّر قليلًا، فوجدتها فرصةً سانحةً للتسلل إلى بلاد الحرمين، لإحلال النفوذ الروسي محل الأميركي هناك.
وينطبق الأمر ذاته على صياد آخر، هو الصين التي نهضت ثورتها الشيوعية على شعاراتٍ بروليتاريةٍ، تنحاز للعمال والفلاحين، ثم انخرطت في لعبة المصالح الدولية، باحثةً عن تحالفاتٍ مع أنظمةٍ مستبدّةٍ، تتيح لها تسويق بضائعها، بيسر وسهولة، وليذهب عمال هذه الأنظمة وفلاحوها إلى الجحيم، إذ ما عاد مطروحًا اليوم شعار: "يا عمال العالم اتحدوا"، بل أعيد تجديد الشعار ليصبح: "يا طغاة العالم اتحدوا".
أما اللوم الحقيقي، فموجّه إلى فلول اليسار العربي الذي لا يزال على قناعته البالية، إن روسيا هي وريثة الاتحاد السوفييتي التي ستعيد استنساخه بالضرورة، وستحيي أمجاده ومبادئه في العالم التائق لفلسفة ماركس ولينين، وعلى قناعته أيضًا بامتداد الصين بشيوعيّتها إلى المنطقة، مع تغييرٍ طفيف، بالطبع، قوامه أن في وسع ألعاب الأطفال أن تحمل هذه الفلسفة، ولا بأس والحال كذلك، أن تعقد تحالفات استراتيجية مع ناشر صحافيين بالمنشار، ما دام رأس أميركا الذي يقف عائقًا أمام هذا التدفق، هو الثمن.
قبل ذلك، كان اليسار المصري، بوصفه أنموذجًا للعربيّ، يتحالف مع انقلاب عبدالفتاح السيسي الدموي، ضد نظامٍ تسلم زمام الحكم عبر صناديق الاقتراع، ورأيناه كيف عقد تحالفًا مع البساطير العسكرية، نكايةً بمحمد مرسي وحزبه، ولم يُدن إزهاق آلاف الأرواح في ميدان رابعة وغيره، لأن "الثورة لا تقف عند أرقام الضحايا"، هذا على الرغم من أن السيسي لا يحمل أي فكر اشتراكي أو شيوعي، ولا أي مبدأ باستثناء مبدأ الرز السعودي والإماراتي الذي ينهال في جيوبه وجيوب طغمته الانقلابية.
وعلى الغرار ذاته، وقف اليسار العربي حليفًا لبشار الأسد في سحق ثورة الربيع السوري، منذ انطلاقتها، معتبرًا أنها "مؤامرةٌ" خارجيةٌ على نظام "المقاومة والممانعة"، ومتجاهلًا أن هذه الثورة رفعت قبضتها في وجه التسلط والاستبداد وقمع الحريات، وتذويب المعارضين بالأسيد. والحال أن موقف اليسار العربي كان يقف ضد ثورات الربيع العربي بمجملها، لا فرق في ذلك بينه وبين أنظمة الاستبداد ذاتها التي كان يزعم مقاومتها ومعارضتها، ويتغنّى بالحريات في منشوراته السرية والعلنية، وبضرورة الثورة على هذه الأنظمة، لكن حين وقع الفأس بالرأس، انحسرت تلك المواقف، وحلّت مكانها شعارات التخوين والتشكيك بهذه الثورات.
في النتيجة، صمت اليسار العربي حيال التحرّكات الروسية والصينية باتجاه محمد بن سلمان، لا بهدف التحليل، بل لمتابعة نتائج هذا التقارب، ومن ثم إعلان موقفٍ مساندٍ للرفاق الروس والصينيين في الاتجاهين، فإن تمخض التقارب عن "قمحةٍ"، يصبح ابن سلمان في عُرف اليسار العربي "رفيقًا" وربما "ممانعًا" أيضًا، ما دام تعمّد بالفودكا الروسية، وسترفع صوره مع صور بشار الأسد، بوصفهما قائديْن عظيمين للأمة. أما إذا تمخضت التحركات عن "شعيرة"، فسيظل بن سلمان ذلك "الرجعيّ الوهابيّ المتخلّف" الذي يقف عثرةً في طريق أمواج الشيوعية التي ستغمر المنطقة بالحتمية التاريخية التي لا مناص منها.
في المحصلة، يتبنّى اليسار العربي شعار "روسيا أولًا"، وإنْ آزرت طغاة العرب برمتهم، من شيوخهم إلى جنرالاتهم، وإن أجهضت ربيع شعوبهم، وفتكت بأحلام الحرية التي راودتهم طويلًا؛ إذ لا صوت يعلو فوق صوت الرفيقة كوني، كلبة بوتين، متناسين أن الشعب الروسي ذاته كان أول من تمرّد على طغاته الذين كانوا على استعدادٍ للتشدق بالنظرية الشيوعية، حتى آخر مواطن في بلدهم.
بيد أن ما لا يدركه صياد الماء العكر أن العكورة هي من يصطاده في آخر المطاف، ليصبح "عكرًا" هو الآخر، أو بتعبير شعبيّ أدق: "عكروتًا".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.