الكراهية الثورية

الكراهية الثورية

13 يناير 2019
+ الخط -
بعد انتصار ثورة ما، أو انقلاب (...)، يقوم أصحابها المنتصرون عموماً بعملية تصفية للحسابات مع الخاسرين أمامهم، وخصوصاً منهم من حكمهم بالقهر والقمع عقوداً، ومن مارس بحقهم أبشع أنواع التعذيب والإقصاء والإفقار، ومن سلبهم حريتهم وأموالهم وكرامتهم، ومن رسّخ في حيواتهم ثقافة الخوف. وغالباً ما تتميّز هذه العملية بالعنف وبالدموية. وكما يقومون بتصفية رفاقهم في الثورة، أو في الانقلاب، من جهة أخرى، يبدأون مساراً من التصفيات في جسم الثورة، للحد من طموحات رفاقهم في الدرب وتطلعاتهم، ولإبعادهم عن الكعكة، وحصر المكاسب السياسية كما سواها بهم وحدهم. 
هذا ما حصل في فرنسا وفي روسيا وفي إيران، حيث قتلت ثورات هذه البلدان، والتي تعتبر الأبرز في التاريخ الحديث نسبياً، أبناءها ومن لاذ بهم، فبحجة الاختلاف العقائدي، شنّع ثوارٌ فرنسيون تمكّنوا من مسك الزمام، بعد ثورتهم سنة 1789، بثوارٍ آخرين من الأسماء المعروفة، والتي ساهمت بشكل فعّال في وصول الثورة إلى مبتغاها، فاستعملت المقصلة التي فصلت بها رؤوس الملكيين عن أجسادهم، لتفصل رؤوس ثوريين عن أجسادهم، كما حصل مع ماكسيميليان روبسبيير مثلا وأترابه سنة 1794. وقامت الثورة الروسية بتصفية عدد هائل من أبنائها بطريقةٍ وحشيةٍ، لم تتوافق مع مبادئها المعلنة، وذلك بحجة الشرعية الثورية، كما جرى مع ليون تروتسكي، رجل الثقة لفلاديمير لينين، وشريكه في قيادة الانقلاب على المناشفة، 
والذي قُتل في منفاه بعد سيطرة جوزيف ستالين على السلطة سنة 1924. وآخر الثورات التي انتصرت بفصل مكوناتها اليسارية والإسلامية، كانت الإيرانية سنة 1979، والتي سرعان ما قام إسلاميوها بتصفية شركائهم من حزب توده الشيوعي أولاً، ومن ثم أترابهم الإسلاميين المعتدلين ثانياً، ليتمكّنوا من السيطرة على البلاد والعباد.
أما في الثورات المنهزمة في المطلق، أو في النسبي، وذلك لتضافر عوامل عدة، داخلية وخارجية، عليها، فمن المتعارف عليه، على الرغم من ندرة الحالات إلا أخيرا في المنطقة العربية، أن يجري من بقي على قيد الحياة من قادتها عملية مراجعة عميقة وشاملة للأداء بمستوياته كافة. كما من الطبيعي أن تُطلق عملية نقدية ذاتية بامتياز، بعيداً عن التستر بنقد الآخرين وإدانتهم، مهما كانت أدوارهم سلبيةً ومستهجنةً وحمّالة أوجه. وبعيداً عن لطم الذات غير المفيد، والمقتصر على إعادة إنتاج بكائيات الأندلس المسترجعة/ المفقودة، إلا أن مسعى من هذا القبيل، أي فعل المراجعة، يمكن أن يكون محموداً لاكتشاف مكامن العلة، ومعرفة أسباب الفشل الكامل أو الجزئي، سعياً ربما إلى توثيق تاريخيٍ، أو للخروج من عنق الهزيمة، باتجاه فضاءات فعلٍ سياسي مختلف.
تجري إذاً مراجعة وعملية نقدية موسّعة للذات حتماً قبل الآخرين، ومحاولة إعادة تلاحم وتضامن بين من لا يزال مؤمناً بأهدافها "النبيلة"، سعياً إلى إدارة الهزيمة، ومحاولة الخروج منها، ليس إلى نصر محتم، بل إلى تخفيف نسبي للخسائر.

أما في بعض الحالات الشاذة، والتي تشكّلت أساساً حول شخصياتٍ مُحمّلةٍ بعقد نفسية متراكمة ومتداخلة، كما أن بعضها يتميّز بأناه الذاتية المتضخمة، مضافاً إليها الافتقاد الباثولوجي للوعي السياسي ما قبل الثوري، فعند وقوع هزيمةٍ لثورةٍ شاركت فيها، أو أشرفت على قيادتها، فرضاً أو مصادفةً، فهي لا تسعى إلى البحث عن مخرجٍ مناسبٍ لإدارة الهزيمة، وما يترتب على ذلك من تعزيز التعاضد والتكاتف بين "المهزومين". كما أنها لا تعمل على السعي إلى إعادة إحياء الجسم الثوري، بما يُلائم المرحلة الزمنية اللاحقة. على العكس، فالمشهد يشهد تدافع المنهزمين على بعضهم بعضاً كالضباع التي تهاجم فريسةً ميتةً، لن تترك مكانها فيما هم منهمكون بالنباح.
ليست الثورة السورية أول الثورات المنهزمة، ولن تكون آخرها، نتيجة تكالب عوامل ذاتية وموضوعية عليها وفيها، ولكنها تتميز دون سواها بنسبة الحقد الذاتي المتراكم كالقيح في جنباتها، وبالطاقة الهائلة لمن ادّعى وصلاً بها بالفتك بمن سواه، ممن آمن بها قناعةً أو تكسّباً مرحلياً. وفي هذا الإطار، هناك مراقبون أجانب تميّزوا بتبنّي "القضية السورية" منذ بدايات مخاضها، ما فتئوا يُعبّرون عن استغرابهم الذي يصل أحياناً الى حد الاستهجان المُحبّذ لحال بعض السوريين المنخرطين في الحراك الوطني، الساعي إلى تغيير الحال المقيت، والانتقال به من مستنقع الاستبداد البنيوي إلى نوعٍ، ولو مخفّفا، من الديمقراطية المنشودة. حيث إنهم يعتبرونه، عن حق، غنياً بأحجام من الكراهية أو الحقد أو الغيرة أو النميمة أو الطعن من الظهر ومن البطن، أو الاستغابة أو التشهير، أو الشتم المجاني أو المدفوع، وإلى آخره من موبقات التصرفات البشرية التي عجزت الحيوانات عن تقمّصها. وبالتأكيد، فالتعميم غير محمود، كما في كل المجالات. كما يمكن الإسراف في التبرير، حيث يُقال إن من شبّ على شيْء شاب عليه، وأن القمع المستمر عقودا قد أحدث مناخاً ملوّثاً، وأن الأصابع الخارجية من الإيطالية إلى الإنكليزية، مروراً بالواق واق، لعبت لعبتها في زرع الضغينة والشك، ولكن المرض يبقى مزمناً وخبيثاً ومميتاً، ونحن نتذوّق بشائره، وكل عام وأنتم بخير.