250 مليار دولار فقط!

250 مليار دولار فقط!

12 يناير 2019
+ الخط -
ليست جديدةً المطالبةُ الإسرائيلية بما تسمى تعويضات للعرب اليهود الذين غادروا عام 1948 وما بعده إلى أرض فلسطين التي نشأت عليها الدولة الإسرائيلية، فلطالما لوّح ساسةٌ إسرائيليون بهذا الأمر في مناسباتٍ مختلفة. وقد سنّ الكنيست (البرلمان) في العام 2010 قانوناً يلزم الحكومات الإسرائيلية بإثارة موضوع تعويضات اليهود في أية مباحثات سلام، وكان الحديث يجري أحياناً عن المطالبة بتعويضات لهؤلاء اليهود، مقابل التعويضات التي أقرتها الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين الذين اقتلعوا من وطنهم في الفترة نفسها. الجديد في هذه الادعاءات:
أولاً: أنها باتت تحمل طابعاً رسمياً، وقد عبّر عنها رئيس الدولة، رؤوبين ريفلين، ضمن يوم احتفالي بعنوان "يوم طرد وتشريد اليهود من الدول العربية وإيران" أقيم في مكتبه. وقال ريفلين في المناسبة: "يجب أن تسرد هذه القصة في مضامين الجهاز التربوي، في الإعلام، في الأروقة الثقافية، وفي مؤسسات الدولة الرسمية، وينبغي أن تُسمع قصتهم في الأوساط العالمية، من أجل تصحيح الغبن التاريخي وضمان تعويضات مالية". وتشرف وزارة المساواة الاجتماعية على مشروع "حصر ممتلكات يهود الدول العربية"، وقد قالت الوزيرة المعنية، غيلا عملائيل، إنه "حان الوقت لتصحيح الظلم التاريخي الذي وقع على اليهود الذين فقدوا 
ممتلكاتهم في الدول العربية.. لا يمكنك التحدث عن الشرق الأوسط من دون النظر إلى حقوق اليهود الذين أجبروا على ترك مجتمعاتهم المزدهرة تحت العنف". وقد نشرت وكالة بلومبيرغ تقريرا، نقلا عن قناة حداشوت الإسرائيلية، أن إسرائيل عهدت إلى شركة محاسبة دولية (مجهولة الهوية) لحصر الممتلكات والمطالبات. والبادي أن "الشركة الدولية" أنجزت عملها، أو جانباً كبيراً منه، ما حمل مسؤولين إسرائيليين على وضع تقديراتٍ لمطالبة سبع دول عربية وإيران بمبالغ تصل إلى 250 مليار دولار. والدول السبع: تونس، ليبيا، المغرب، مصر، سورية، العراق واليمن. (سوف تتم مطالبة تونس بـ35 مليار دولار، وليبيا بـ 15 مليار دولار). وفي ضوء ما تقدم، فإن من المتوقع أن تشرع تل أبيب في اتخاذ إجراءات رسمية للتقدم بهذه الادعاءات التي سوف تشمل بعدئذ الجزائر ولبنان.
ويُقدّر عدد اليهود، حسب الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية الإسرائيلية، الذين غادروا الدول العربية وإيران بـ849 ألفاً، علما أن قسماً منهم لا يقل عن الثلث، قد خرج إلى دول غربية، مثل فرنسا وكندا وغيرهما، ولم يتوجه إلى إسرائيل. وتعتبر هذه المزاعم تصعيداً إسرائيلياً ضد الدول العربية، بعد أن جنحت هذه الدول، مجتمعة ومنفردة، إلى السلم مع الدولة العبرية.
ثانيا: بما يتعلق بالتوقيت، تتزامن هذه الادعاءات مع استعداد الإدارة الأميركية لإعلان صفقتها المسماة "صفقة القرن". وقد تم التصريح بتأجيل طرحها مرات، وكان الموعد الأصلي في أواسط العام الماضي (2018)، وجاء التأجيل الأخير تلبية لطلب رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، مسوّغا طلبه بتقديم إجراء الانتخابات النيابية إلى إبريل/ نيسان المقبل عن موعدها في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وحتى لا تصبح الصفقة موضوع تجاذب في الحملات الانتخابية في حال طرحها في يناير أو فبراير من هذا العام كما كان مقرّرا. وقد استجيب لطلب نتنياهو، وهي استجابةٌ تتماشى مع تجاوب الرئيس دونالد ترامب لمجمل المطالب الإسرائيلية التوسعية. والظاهر أن المطالبة بتأجيل الإعلان عن الصفقة بضعة أشهر ترمي إلى كسب الوقت لتجهيز "ملفات التعويضات"، والتباحث مع الإدارة الأميركية بشأن محتوى هذه الملفات، ومسائل أخرى تضمن للاحتلال التصفية الكاملة للقضية الفلسطينية، وانتزاع أكبر قدرٍ من المكاسب من خلال الصفقة، وفي أجواء التحضير لها، كما حدث في نقل السفارة الأميركية إلى القدس والإجراءات العدائية التي اتخذتها إدارة ترامب ضد الفلسطينيين.
التقدير الآن أن حكومة نتنياهو إما أن تطالب، وهذا هو الأرجح، واشنطن بتضمين ادعاءاتها بتعويضات مالية لليهود في "صفقة القرن"، بما ينسجم مع مسمّاها صفقةً، ومع مضمونها صفقةً لصالح الاحتلال، وعلى حساب الطرف (الفلسطيني) الضحية والأطراف العربية، أو أن تتبنى الإدارة الأميركية هذه المطالبة خارج الصفقة، وتدعو الدول العربية المعنية إلى التفاوض على المطالبات مع إسرائيل. ويتحقق بذلك انتصارٌ سياسي ومعنوي إسرائيلي فائق الأهمية على دول عربية أساسية، في حال تم البدء بالتفاوض بشأن هذه المزاعم.

ثالثا: يراد بهذه المزاعم حرف الأنظار عن المطالبات بعودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم، بالسير في اتجاه معاكس مفاده بأن المتضرّرين الذين يستحقون التعويض هم يهود الدول العربية، لا اللاجئون الفلسطينيون. وذلك باستغلال تراجع مكانة قضية فلسطين على الأجندات الإقليمية والدولية، وما يتعرّض له الفلسطينيون من تهميشٍ لقضيتهم في العالم العربي، وباستثمار استسلام إدارة ترامب للمطامع الإسرائيلية إلى أقصى حد.
رابعا: تأتي هذه الادعاءات في أجواء التطبيع العربي الإسرائيلي السائر قُدماً، وهو ما تفهمه تل أبيب، وتفسره دليلَ تراجعٍ عربي ووهنٍ يعتري الإرادة السياسية، وما تترجمه تل أبيب من جهتها بأنه لم يعد هناك من قيد معنوي، يحول بينها وبين مضاعفة التنكيل بالشعب الرازح تحت الاحتلال، والجهر بالنوايا التوسعية للاستيلاء على كامل الأرض المحتلة. وبينما كان الإعلان عن نهاية الحرب، والاعتراف بإسرائيل، شرطا تضعه تل أبيب أمام العرب لإحلال السلام، فإنه من المنتظر، وخلال أمد قريب، أن يصبح الاستعداد العربي لأداء تعويضاتٍ ليهود الدول العربية البرهان الإضافي الذي تطلبه تل أبيب من الدول العربية، لإثبات توجهاتها السلمية نحو دولة الاحتلال.
وفي جميع الأحوال، الدولة العبرية ماضيةٌ في حرب استنزاف الدول العربية، وهذه المرة تحت غطاء من إشاعة أجواء السلام. وضمن الادعاءات أن الحاجة قائمة لتعاون عربي إسرائيلي ضد إيران، وهو ادّعاء شبيه بالحاجة إلى تعاون إيراني عربي ضد إسرائيل. ذلك أن إسرائيل وإيران كلتيهما، ترغبان في بسط أكبر قدر من النفوذ والهيمنة على المقدّرات العربية، وتتنافسان بصورةٍ محمومةٍ لتحقيق هذه الغاية.