عن قتل السائحتين في المغرب

عن قتل السائحتين في المغرب

02 يناير 2019
+ الخط -
أبت سنة 2018 الرحيل، إلا بعد إثقال ذاكرة المغاربة بمزيد من الخيبات، وكانت سنة استطاعت فيها السلطوية ترجيح موازين القوى لصالحها؛ في رحاب السياسة كما في عالم الاقتصاد، أما قطاع العدل فيبقى المثال الأوضح لمسلسل التراجعات.
لا يكاد المغاربة يتجاوزون انتكاسة حتى تستقبلهم أخرى، إذ ستبقى كوارث الهجرة الجماعية إلى الضفة الأخرى، والأحكام الثقيلة في حق معتقلي حراك الريف، ومقتل شابة مغربية بسلاح البحرية المغربية في زورق للهجرة غير الشرعية، وواقعة وفاة مكفوف من المعتصمين داخل مبنى وزاري، وفاجعة انقلاب القطار في بوقنادل، وإدانة الصوت المزعج للنظام توفيق بوعشرين.. وقائع عصيّة على التجاوز والنسيان. ولكن جريمة قتل السائحتين الاسكندنافيتين، في قرية إمليل (نواحي مدينة مراكش)؛ ذبحاً بالساطور على يد جماعة من المتطرفين، في مشهد همجي، ستظل أسوأ حادث في السنة لدى المغاربة. لأن ما جرى في منطقة شمهروش شكل سابقة في تاريخ التطرف في المغرب، سواء من ناحية مكان الجريمة؛ إذ لأول مرة يشهد العالم القروي المعروف بالبساطة والأمن والأمان عملا من هذا النوع، أو من حيث نوعية الجناة المقترفين للفعل الشنيع، ممن لهم مستوياتٌ تعلمية دنيا، ومهن بسيطة، كالرعي والنجارة.

تُسائل الحادثة ثلاثة نماذج، الأمني والديني والتنموي؛ وهي التي شكلت، منذ بدايات العهد الجديد، ركائز محورية، تم في سياقها تمرير سياسات رسمية عديدة للدولة. وعمل المغرب، في السنوات الأخيرة، على تصدير نموذجين على الأقل، الديني والأمني. فيما أقّرت أعلى سلطة في البلاد، قبل أكثر من سنة، في خطاب رسمي، بفشل النموذج التنموي.
كثر الطلب على النموذج الأمني المغربي؛ إقليميا ودوليا، في السنوات الأخيرة، بعدما أثبت نجاعة أسلوبه الاستباقي وفعاليته في التصدّي للتطرف والمتطرفين. إذ نجح على مدار السنوات الخمس الماضية (منذ 2013) في تفكيك عشرات من الخلايا الموالية لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على التراب المغربي، وحتى خارجه، بالتنسيق مع دول أفريقية أو أوروبية.
لكن جريمة إمليل وجّهت إليه ضربة قوية وصادمة، ليصبح فجأة موضع اتهام ومحل تشكيك، بعدما اهتزّت الصورة الأمنية عن المغرب في العالم؛ بسبب شريط قصير يوثق عملية الذبح الوحشية للسائحتين. ما يعني قدرة تنظيم الدولة الإسلامية؛ وهو في مرحلة الاحتضار، على اختراق المملكة، وزعزعة الأمن والاستقرار في عالم قرويٍّ آمن عبر التاريخ.
حتى اللحظة، وضدا لكل الروايات المتداولة عالميا بشأن وجود ارتباط تنظيمي بين المنفذين وجهات أجنبية، ترفض الأجهزة الأمنية هذه الرواية؛ على الرغم من وجود ما يعزّزها (شريطة المبايعة)، معتبرة أن ما جرى هناك "عمل إرهابي محلي"، لا صلة له بأي جهة خارجية أو تنظيم دولي.
يدرك صناع السياسة الأمنية جيدا أن قبول هذه الرواية التي تتقاذفها وسائل الإعلام الاسكندنافية سينعكس على صورة المغرب بلدا آمنا ومحصنا من خطر التهديدات. وعلى الصناعة السياحية التي تشكل قطاعا حيويا وموردا مهما للبلاد. وأخيرا، على الاستثمارات الأجنبية التي تمكن المغرب من استقطابها بشعار "الإصلاح في ظل الاستقرار"، مستغلا الاضطرابات التي شهدتها دول الإقليم.
بيد أن نفي رواية الاتصال بالخارج أو إثباتها لا يسقط مطلقا أسئلة كبرى عن مدى نجاعة المقاربة التي يعتمدها النموذج الأمني، متى تعلق الأمر بأسلوب "التطرّف السريع" الآخذ في الانتشار، أو ما تعرف بظاهرة "الذئاب المنفردة"؛ القائمة على مبدأ التمويل الذاتي المحلي المحدود، ممن اختاروا التواري عن أنظار المراقبة والرصد، في أعماق المجال القروي؛ حيث بساطة الحياة في كل شيء.
دخل المغرب؛ منذ عام 2004، في مشروع هيكلة الحقل الديني، كانت من نتائجه صياغة نموذج ديني؛ قوامه المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني، وقد عمِلت المملكة على تصدير هذا النموذج إلى القارة الأفريقية بالدرجة الأولى، غير بعيدٍ بدوره عن دائرة الفحص والمساءلة، حتى وإن كان نصيبه التجاهل، بسبب الاهتمام بالجانب الأمني فقط.
ومن غير المعقول أن يكون هؤلاء القتلة من ثمار مراجعة جذرية للحقل الديني في المغرب، دامت قرابة عقد ونصف من الزمن، فالظاهر أن النتائج جاءت عكس المتوقع والمأمول، إذ عوض تقليص نطاق انتشار الفكر السلفي الوهابي في المغرب، ساهمت القبضة الحديدية لمهندسي الحقل الديني في المغرب؛ عقب تفجيرات الدار البيضاء في مايو/ أيار 2003 ، في تنفير الناس من الإسلام التقليدي (التديّن الشعبي) للسقوط في براثن التطرف والمغالاة والانغلاق والتشدد. ولنا في المستوى التعليمي البسيط لهؤلاء المتطرفين المثال الأبرز على رجاحة هذا القول.

ما وقع يزيد من استعجالية تقديم نموذج تنموي جديد متكامل يحل محل النموذج التنموي القديم القاصر على أكثر من صعيد، وهو ما أكّدته المؤسسة الملكية، عندما أعلنت انتهاء صلاحيته قبل سنة، بعدما أظهرت تقارير المؤسسات الرسمية والهيئات الدستورية أنه لم يكن في مستوى تحديات المرحلة، فمنطقة إمليل صورة مصغرة لمغرب آخر، ظل على الدوام مجرد هامش؛ لا مكان فيه لمخططاتٍ وطنيةٍ بألوان قوس قزح، ولا ميزانيات بالمليارات على كماليات الحياة. مغرب لا يطلب سكانه من الدولة سوى الحد الأدنى من الضروريات التي تضمن لهم العيش. مغرب انتفض أبناء في أكثر من منطقة (الريف، جرادة، زاكورة...) طلبا لضمان أساسيات العيش، وتحقيق العدالة المجالية. إنه مغرب القرى والأرياف الذي كان مواليا للنظام، ومدافعا عن العرش؛ بتعبير ريمي لوفو، يصرف شبابه اليوم ظلمهم إلى إجرام وتطرّف وهمجية وكراهية وعدوان...
إن مراجعة جوهرية لهذه النماذج الثلاثة كفيلة بتقليص هامش انزلاق الشباب المغربي نحو التطرّف، وليس الحد منه، لأن هذا الأمر بات مستحيلا. بعدما أضحى معين التطرّف اليوم في جيب كل فرد، بنقرة واحدة يشرب من أي منبع يشاء، لذا يبقى الرهان على مقاربة مندمجة (الديمقراطية، الحرية، التنمية، الأمن...) أسلم خيار للتصدّي للتطرف.

دلالات

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري