السودان.. ثورة وتهم عنصرية

السودان.. ثورة وتهم عنصرية

02 يناير 2019
+ الخط -
ما أعجب الدكتاتوريات، حينما يضيق عليها الخناق تناغم بعضها بعضا، وتفتح الصفحات نفسها من قاموس الدكتاتورية التاريخي. 
ألف الناس في السودان الرئيس السابق، جعفر نميري، حينما يضيق عليه الخناق الشعبي، يهذي بعنصرية بغيضة، ويتهم فئاتٍ من غرب السودان بالضلوع في "المؤامرة العنصرية الدنيئة"، كما جرى عام 1976. والآن، ولما فاجأت الثورة الشعبية في مدن السودان الحكم في الخرطوم، لم يجد رئيس جهاز الأمن السوداني، صلاح قوش، سوى فتح الصفحة نفسها من قاموس الدكتاتورية، واتهام حركة تحرير السودان، بقيادة عبد الواحد النور، وطلاب الجامعات من أبناء إقليم دارفور، بأنهم وراء أعمال التخريب في عطبرة والدامر وبربر. ثم زاد بتوضيحاتٍ أغرب، إن "مجموعة تابعة للحركة، وتتكون من مائتين وثمانين عنصرا يشرف عليها الموساد (المخابرات الإسرائيلية)، تحركت من إسرائيل إلي كينيا ثم دخلت السودان". ثم تبع ذلك إعلان وزير الدولة في وزارة الإعلام والاتصالات، مأمون حسن إبراهيم، فى مؤتمر صحافي، عن "ضبط خلية مسلحة من عشرة أفراد بالدروشاب شمال الخرطوم تتبع المتمرد عبد الواحد محمد نور، تتمثل مهامها بإحداث اغتيالات وسط المحتجين، والقيام باعمال تخريبية"، ثم أورد أرقاما للسلاح تبعث على الضحك، أن عشرة طلاب قدموا من إسرائيل، لتنفيذ عمليات كبيرة ببنادق عتيقة وعدد محدود من الطلقات.
إنه حديث يثير الدهشة لعدة أسباب، فالمدن التي اندلعت منها الثورة في ولاية نهر النيل يصعب تخيل وجود أبناء دارفور فيها بتلك الكثافة، ناهيك عن أن يكونوا ناشطين عسكريا. كما أن حديث رئيس جهاز الأمن عن رحلة طويلة تتبعت خلالها الأجهزة تحرّك نحو ثلاثمائة عنصر مدرب جيدا من "الموساد"، ثم تأكيده علم الأمن بتحرّكهم حتى دخولهم السودان، ثم مشاركتهم الشعب، حديث أشبه بأفلام الخيال، ولا يقره منطق أو عقل، على أن الذاكرة الشعبية تحتفظ بهذا الغريب الحكومي من القصص، يوم دخل حوالي ثلاثة آلاف من قوات حركة العدل والمساواة عام 2008 مدينة أم درمان. أي أن قوة مسلحة تدخل العاصمة على متن ثلاثمائة عربة 
عسكرية، مزودة بالسلاح، عابرين مسافة طويلة، تقدر بآلاف الكيلومترات من إقليم دارفور في أقصى غرب السودان، تتجه نحو العاصمة على مرأى من القوات الحكومية، بحسب وزير الدفاع وقتها عبد الرحيم حسين، الذي قال إنهم لم يشاءوا إيقافهم حتى يعرفوا مقصدهم النهائي. وعمليا ليس فقط أنهم دخلوا أم درمان، بل كانوا على وشك احتلال العاصمة بكاملها. والسؤال الآن: لماذا انتظر الأمن الآن ليكشف عن الخلايا المخربة عقب تفجر الثورة الشعبية؟
من الصعب الحديث عن تخريب بذاك القدر، إذ إن كل ما جرى هو حرق مقرات لحزب المؤتمر الوطني (الحاكم) بكل ما في ذلك من رمزية الغضب الشعبي من الحاكمين، ولم تسجل القوات الأمنية، على الرغم من الضجيج عن المندسّين والمخربين، عن أعمال تخريبٍ طاولت مؤسسات الدولة. وحتى الصور التي نشرت عن المندسّين المفترضين تحولت سريعا إلى سخريةٍ لاذعة على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ اتضح أن المتهمين من طلاب دارفور في الجامعات في الخرطوم، ولم يغادروا السودان. وقد قوبلت هذه الاتهامات بردة فعل قوية من حركة تحرير السودان التي ردت ببيانٍ فندت فيه اتهامات الأمن والحكومة، واعتبرتها "دليل عجز وقلة حيلة ومحاولة يائسة لتبرير الفشل الذي لازم نظامه". وقالت إن معركتها مع "النظام ومليشياته وأجهزته القمعية وليست مع الشعب السوداني، وندرك أن الأصول والمرافق العامة ملك للشعب السوداني، وليس المؤتمر الوطني". واعتبرت التصريحات الحكومية "سذاجة وبلاهة تعبر عن حالة العجز والتوهان السياسي التي وصل إليها قادة النظام".
ومضى مؤتمر الطلاب المستقلين إلى أكثر من ذلك، بنشره أسماء الطلاب المتهمين بالتخريب، وقال إنهم من الطلاب النشطاء السياسيين المعروفين في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا. متهمين الحكومة "بنشر العنصرية البغيضة"، وهو الأمر نفسه الذي فعلته رابطة طلاب أبناء دارفور في الخرطوم، بحديثها عن حملة اعتقالات مكثفة، طاولت متظاهرين كثيرين، وخصّت طلاب دارفور في الجامعات بأشكال من العنف الجسدي والمعنوي، ثم اختار الأمن مجموعة منهم، وأجبرهم أمام شاشات التلفزة على الاعتراف بأنهم خلية تتبع لحركة جيش تحرير السودان للتحريض وتخريب ممتلكات الدولة. وأكدت الرابطة على اتهام الدولة بتأجيج نار العنصرية بين مكونات المجتمع السوداني.

ويبدو أن الحكومة، وقد أخذتها حالة من الهلع من الحراك الشعبي الواسع، اتجهت إلى استخدام ورقة عنصرية قبيحة، طالما روّجتها، بل حوّلتها سياسةً رسمية، تمثلت في اعتماد أسس قبلية في استخراج الأوراق الثبوتية الرسمية، وهو أمر مستحدث من حكم عمر البشير. كما أن اختيار رئيس جهاز الأمن، صلاح قوش، المكان والتوقيت، للإعلان عن "المخرّبين والمندسين" لم يكن مصادفةً، لقناعةٍ قويةٍ لديه ولدى الحاكمين بأنها قد تلقى آذانا صاغية، لكن ردة الفعل الشعبية قد خيبت ظنه إذ أعلت من قيم الوحدة والتماسك الشعبي، لتحقيق هدف واحد، وهو وضع نهاية لنظام الحكم. ولعل أبلغ إدانة لهذا النهج العنصري الرسمي ما سجلته المذيعة التلفزيونية، شاهيناز عثمان، علي صفحتها في "فيسبوك" معتذرة عما سمته "خبر قوش"، وغيره من أخبار. كتبت "أعتذر عن كل الكذب والهراء الذي قرأته خلال الأيام الماضية"، وخصت أبناء دارفور "أعتذر لإخوتي أبناء دارفور عن كل الافتراءات التي ربما تحتويها النشرات بحقهم".. هي حيل مجرّبة لدى النظم الشمولية في السودان، تنضح عنصرية وقبحا، وتسجل دعواتها في كل مرة فشلا كبيرا.
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.