كمال بورخيس

كمال بورخيس

10 سبتمبر 2018

بورخيس.. هوس بدقة "الصنعة" في الكتابة (20/5/1979/Getty)

+ الخط -
يصعب أن لا تثير قراءة أعمال بورخيس، أو إعادة قراءتها، شعوريْن متلازميْن: مقاومتها للاستنفاد، وقدرتها على تقليب فكرة الكمال، في ذهن القارئ، أو ربما خلقها. كل من قرأ بورخيس يعرف أن في وسعه الانتهاء منها في ليلة أو ليلتين. فهو ليس مكثراً، ولم يحب المكثرين، وله في هذا رأي فصل: من العبث أن تؤلف كتبا ضخمة، وأن تمطّ فكرة في 500 صفحة، بينما يمكن عرضها في دقائق عدة! هذه الصفحات الـ 500 قد تنتهي عند بورخيس إلى خمس. الباقي زوائد واقعية، شرحية، وصفية، حوارية، تثقل "جوهر" الكتابة، بل هي خارج الكتابة. أتوقف هنا عند أمريْن أسّسا هذه الرؤية عنده، حسب زعمي: الأول أن لغته الأولى كانت الإنكليزية، وهذه لغة أكثر "دقّةً" من اللغات اللاتينية، في التعبير عن نفسها، وفي انضباطها. نلاحظ ذلك في "شعرها" الذي يميل إلى الملموس أكثر من ميله إلى المجرّد، أو الاندفاع وراء المجازات أو الإيقاعات المجلجلة.
قد يكون الانضباط والدقة جاءا إليه من الإنكليزية، أما الإسبانية فمدّته، على الأغلب، بالعاطفة واستضافة الفانتازيا وتجنيحات الخيال، ذلك أن الإسبانية، كما نعلم، انفتحت على لغاتٍ تملك هذه الخصائص، كالعربية.
أي قارئ لبورخيس يعلم جيداً هوسه بدقّة "الصنعة"، كصائغ جواهر، لا يترك شائبةً في صنيعه. وليس من المستغرب أنه اختار أشكالا كتابية تستجيب لهذا الهوس، بل من الطبيعي أن يفعل: القصة القصيرة، المقالة القصة، الأمثولة، القصيدة. ليس هناك مساحات فارغة في رقعة أعماله. كما أن هذه الأجناس لا تتيح مجالا للإسهاب والثرثرة. هناك حيّز محدود وهو مستثمر بالكامل. هذه الاستراتيجية في اختيار الوسيط الكتابي ومساحته مكّنته من الارتقاء أقرب إلى ما يكون إلى الكمال الكتابي، فهنا تبلغ السيطرة على الوسيط ما لا تبلغه في استراتيجيّة كتابيّة أخرى. يستحيل فعل ذلك في عمل روائي، أو في أعمال قصصية طويلة. لا بد من يحضر الترهل، وأن تحدث المطمطة، لأن الوسيط نفسه يسمح بمثل هذا، بل يحضّ عليها أحياناً، بحجة الاقتراب من نثر الحياة اليومية، وما تحفل به من أشكال سردية.
في إعادة قراءة بورخيس يبرز بحثه عن كمال، وعن متع كتابية عند الآخرين. بين كثيرين، يعطي بورخيس الشاعر الفرنسي بول فاليري مكان الصدارة. فهنا تجتمع متع الفكر بمتع الشعر. ويضعنا بورخيس أمام شاعريْن، يعرض علينا فضائلهما: والت ويتمان وبول فاليري. ولكن من منظوريْن مختلفين تماما: منظور العاطفة الإنسانية الباهرة والشخصية غير القابلة للتكرار عند ويتمان وألعاب العقل ومتعه المجرّدة التي يمكن أن تلمسها عند فاليري. هو نفسه يقول: لا يوجد تعارضٌ أكبر من هذا.
لكن في النهاية ترجّح كفة فاليري الذي عاش في زمن "الشعبويات" والقوميات: النازية، والماركسية، وهي أفكارٌ أقرب إلى الأكاذيب بالنسبة لبورخيس، فمعروفٌ عن هذا الكاتب العظيم ميله إلى المحافظة السياسية، بل من الممكن القول: اليمين السياسي.
من الطبيعي أن ترجّح كفة بول فاليري على كفة والت ويتمان: فالشاعر الفرنسي انشغل بقضايا الفكر والفلسفة، وله مؤلفات في هذا الجانب، فيما لم يعرف عن ويتمان هذا النوع من الانشغال، ولا حتى في أعماله الشعرية، إلا تأويلا.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن