احتقار الذات المبدعة

احتقار الذات المبدعة

10 سبتمبر 2018
+ الخط -
لا أدري إن كان وصف المريد هو الكلمة الأكثر ملاءمة لحالاتنا الفكرية؟ وهل يمكن القول إن الأمر ظاهرة ثقافية تشكلت مع الفعل والتأثير الاستعماري، أم مجرد حدث مؤقت وعابر؟
لا أخص بالحديث هنا ما يسمّى العامة أو الجمهور، بل أعني أساسا شريحة الطلاب الجامعيين والمثقفين والكتاب، أي كل الذين ينتمون، بشكل أو بآخر، إلى جماعة القراء، والذين يفكون أو يؤولون رموز الحروف والنصوص، ويحملون القلم لتوقيع نص أو مقال ما.
أقول إن ثمّة شيئا، وفي أغلب الأحيان، الكثير من "الموريدية" تسكننا جميعا وتسري في عقولن، أو على الأقل تخترقنا وتعبرنا وتظهر آثارها في بعض تصرفاتنا وأعمالنا الفكرية، فهل هي من آثار الدين والتديّن فينا؟ هل هي أشكال من الكسل تستوطن عقولنا؟ هل هي من بقايا تأثير الاستعمار؟ أو من قوة وفعل العادة السيئة فينا؟
قد يكتب أحد منا نصا فكريا فلسفيا أو أدبيا أو علميا، لا يقلّ قيمة وأهمية وطراوة عن نصوص أحد الفلاسفة أو الأدباء أو العلماء المتربعين على أعلى هرم الفكر والإبداع على المستوى الأممي، لكن لا يثير انتباه أحد منا، بل ولا فرد منا يتوقف عنده أو حتى يلتفت إليه. وقد يضاهي نص أحد منا، من حيث الرومانسية، نصوص فولتير، أو من حيث العبث نصوص كافكا، أو من حيث الواقعية نصوص إميل زولا، أو من حيث الغموض والتعقيد نصوص هايدغر، أو من حيث البناء النظري نصوص هيغل. لكن لا أحد منا يتناول المقال بكثير من الاستعداد والعدة والجدية والحضور. وإذا توقف الواحد منا عند مقال ما أو مرّ مرور الكرام على نص ما، فيعمل على البحث عن الثغرات والهفوات ومناطق الضعف والخلل في هذه النصوص والحكم عليها بالعقم في الإبداع، وبالتالي الإقصاء واستعجال الإلقاء بها في سلة المهملات. لكن إن أضاف هذا الواحد منا إلى نصه ما يفيد بأن النص الذي أنتجه ليس من عمله هو، بل هو نص مفقود عثر عليه أخيرا، وهو لكانط أو هيغل أو ماركس أو نيتشه أو فرويد أو هيدغر أو فوكو أو دريدا أو... وأن ما قام به هذا المنتمي لنا لا يتعدّى الترجمة فقط، أو لو أنه أنجز نصا بلغة أجنبية وتحت توقيع اسم مستعار أو مقرصن لأحد أعلام الفكر، كأن يكون الإسم: ريكور أو بورديو أو هابرماس أو دولوز... آنذاك سنرى كوكبة منا تتهافت على النص وتتسارع إليه كي تسجل السبق في الحضور والحديث عن الكنز المخبوء والمكتشف العالمي الحديث.
ربما في عصرنا وحاضرنا لم نقرأ ولم نسمع عن أحد من أساتذتنا المفكرين، كونه قام بتقديم أحد تلامذته المتميزين والنجباء كمتجاوز له أو على الأقل كمكمل، مجدد ومضيف لمساره، فهل يمكننا الحديث عن مرض فكري أصاب النخبة المثقفة كما لو أنه زكام صيفي عابر أم مرض مزمن، أم عاهة مستديمة؟ هل هناك عدم الاعتبار لأنفسنا، وبذلك نعكسه في من هو منا؟ هل هو نوع من جلد الذات المبدعة؟ أو ضرب من ممارسة الرقابة الذاتية تفاديا لأي نجاح فردي وانفلات إبداعي؟
لقد تعوّدنا على هذه الأفعال في ميادين أخرى كالصناعة والتجارة واستهلاك المنتوجات المادية مثلا، إذ كل ما هو أجنبي وغربي هو متفوق، وبالتالي مرحب به في بيوتنا ومكاتبنا وقابل للاستهلاك من دون أدنى شك أو تحفظ، وكل ما هو وطني ومحلي، هو منبوذ، وغير مرحّب به، وغير مؤهل للاستهلاك أو يستهلك بتحفظ وبحذر شديد في غياب البديل الأجنبي. ألا يستهلك العديد منا فكر الآخر الغربي كما لو أنه يلتهم الوجبات السريعة، وهو على متن القطار أو داخل البورصة؟ هل استطاع فكر الآخر (الغرب) أن يقنعنا بتفوقه علينا وأيضا على قصرنا وعدم تأهلنا للخوض في كل ما هو فكر وفلسفة وعلم؟ هل أقنعنا الغرب واقتنعنا بدونيتنا، بل ربما جردنا من الانتماء لذواتنا؟ هل لافتقارنا إلى تقاليد فكرية من النوع الذي يمتلكه الغرب؟ هل لا نمتلك وسائل وأدوات تقدير الذات والرفع من قيمتها بعيدا عن خطاب رد الفعل السلبي وتمجيد الذات الماضية والبكاء على الأطلال الذي يمارسه العقل السلفي بكل أطيافه؟ هل نحن من منحنا لمفكري وفلاسفة الغرب حجما أكثر من حجمهم الحقيقي والطبيعي وصرنا نتهافت على كل منتوجاتهم كما لو أننا نبحث عن الوثوقية أو كأننا وجدنا اليقين عندهم؟
لكن ماذا عن النحن؟ ألسنا عقيمين وغير منتجين لفائض القيمة بل حتى للقيمة نفسها؟ ألسنا فقراء عصرنا؟ ألسنا مفعول فيهم وبهم؟ ألا ننتمي إلى عالم الفكر المعاصر إلا كرهط من الناقلين، الإجتراريين والتكراريين لماضينا ولحاضر غيرنا؟ ألم نتغيب عن حاضرنا؟ ألسنا ذاتا خامدة ميتة لا تنتمي إلى الماضي إلا عبر الاستنجاد بالأجداد؟ ألا نفتقر إلى معرفة خاصة ومكتملة عن الآخر، وبالتالي عن أنفسنا؟
6CD01A49-74BB-4A9E-AC8F-3FB5631C566B
6CD01A49-74BB-4A9E-AC8F-3FB5631C566B
عمر بن أعمارة (المغرب)
عمر بن أعمارة (المغرب)