جون ماكين في الجنّة

جون ماكين في الجنّة

09 سبتمبر 2018

جون ماكين.. تأييد مفرط لغزو العراق (5/9/2017/Getty)

+ الخط -
أي صدمةٍ ستهزّ فرائص المبتهجين من زَبَد العرب، لو خالف جون ماكين يقينهم، ودخل الجنة عوضًا عن النار التي حسموا خاتمته في جحيمها، استنادًا، أولًا، إلى "كبائره" التي اقترفها بحقّهم، لا سيما تأييده المفرط احتلال العراق، والتدخل العسكري في ليبيا وسورية، واستنادًا، ثانيًا، إلى أدعيتهم عليه بالموت الزؤام، وقد انصبّت كالمدفع الرشاش على نافوخه طوال حياته؟
قبل ذلك، ماذا سيكون رأي زَبَد العرب، لو قيّض لهم أن يقفوا مع الطرف الباكي على رحيل جون ماكين، من المواطنين الأميركيين المحيطين بجسده المسجّى ببذلته السوداء المخملية، وربطة عنقه الأنيقة، وباقات الورود الملوّنة، ويستعرضون مناقبه ومآثره، خصوصًا حين يقرأون، في سيرته الذاتية، أنه طيارٌ عسكريّ شجاع، يحمل عشرات الأوسمة والنياشين، ورفض المساومة على مبادئه خلال سنوات أسره في فيتنام، لقاء إطلاق سراحه، عدا خدماته في العمل العام، في أثناء عضويته في مجلس النواب الأميركي، منذ عام 1987 حتى وفاته.
أغلب الظن أن صدمة الشامتين العرب ستكون مهولةً، وربما تفوق حجم شماتتهم ذاتها التي عجّت بها مواقع التواصل الاجتماعي، احتفاءً بموته، وكأن موت الخصم هو انتصارهم المنشود الذي أصبح بديلًا موضوعيًّا لهزيمته التي لم يتمكّنوا من تحقيقها في حياته.
على هذا المنوال، يمكن قراءة العقل العربي في القرن الحادي والعشرين الذي يبدو أنه سلّم قياد معاركه الأرضية لعزرائيل، فقط، باعتباره القادر وحده على وضع حدّ لمعاركهم، غير المتكافئة، مع خصومٍ بحجم ماكين وسواه، موقنين أن أدعيتهم هي السلاح الأمضى في مواجهة الخصوم، وبأن موت هؤلاء الخصوم يمثل "راحةً لهم من كل شر".
وقبل ذلك، كان العرب قد حقّقوا نصرًا مؤزّرًا، لا يقل أهميةً، بموت عديدين من ألدّ أعدائهم، خصوصًا شارون الذي أمضى غيبوبة أمدها ثماني سنوات في غرفة العناية المركّزة، بفضل أدعيتهم، بل منهم من كان يدقّق في أجهزة المونيتور المتصلة بجسد شارون، أزيد حتى من الممرّضين أنفسهم، يرقبون لحظة توقّف نبضه، ليعلنوا "انتصارهم" بموت عدوّهم اللدود، وليس باستعادة فلسطين ذاتها.
هنا، أيضًا، يتكرّر السؤال عن صدمة الزبد العربي، لو كان عرف أن شارون السفّاح يعدّ في عيون صهاينته "بطلًا قوميًّا"، كونه أنقذ إسرائيل من الفناء، في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وبأنه لو قيّض لزعيم عربي أن يقدّم ما قدمه شارون لإسرائيل لتغيّر وجه الصراع مع العدو الصهيوني منذ أمد بعيد، فقد كان شارون يسابق الزمن، فعليًّا، لتثبيت إسرائيل، على قاعدة مقولته الشهيرة: "جميعنا يجب أن يركض، فكل ما في أيدينا لنا، وما ليس في أيدينا يصبح لهم".
الشماتة العربية كانت حاضرة هنا، أيضًا، من دون أن تقترن بأي فعلٍ حقيقيٍّ على الأرض، وبدل أن ينظروا بموضوعيةٍ إلى عدوهم الذي أفنى حياته في خدمة إسرائيل، في مقابل زعمائهم الذين أفنى بعضهم حياتهم في خدمة أعضائهم التناسلية، لكانوا ربما كفّوا عن الشماتة، وراحوا يتطلعون إلى تشكيل نماذج عربية تضارع خصومهم في خدمة شعوبهم.
كان يمكن أن يحدث ذلك كله، غير أن الزبد لم يتعلّم درس البحر جيدًا، فقد استكان إلى "كثرته" التي لم يستثمرها إلا بزيادة عدد أدعيته على الخصوم، بدل الاقتداء بموج البحر، الأقل عددًا، والأعظم فعلًا، وتوسّل بملك الموت أن يحسم معاركه كلها، وتحوّلت ميادين الحروب مع الأعداء، من جبهات القتال، ومن مختبرات البحث العلمي والتطوير واللحاق بركب الحضارة، إلى أدعيةٍ مكرورةٍ، في ساحات المساجد، بتعجيل موت الخصوم وفنائهم، وتدوير الدوائر عليهم، ثم ينقشع غبار المعركة، ويغادر "جنود" الأدعية الجبهات، بعد أن أدّوا واجبهم العسكري على أكمل وجه، ولم يبقَ غير انتظار حصاد أدعيتهم المسدّدة بدقةٍ وقوةٍ لا يحتملان شطط التصويب، مردّدين مع شاعرهم المتنبّي: "وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.