استقالة وزير

استقالة وزير

09 سبتمبر 2018
+ الخط -
على الرغم من الطبيعة الاستبدادية لنظام الحكم في سورية، وقعت شخصيات علمية في فخ ما تمّ طرحه من وعودٍ في بداية الألفية الثانية مع مسيرة "التحديث والتطوير". ولشدّة الحماسة الوطنية لدى جزء منهم، أو لجاذبية "السلطة" المعنوية لديهم، قبل آخرون العمل في الأطر الضيّقة القريبة من مراكز القرار في النظام. وكان منهم وزيران على الأقل من خيرة الضليعين في اختصاصاتهم، تعرّضا لضغوط جمّة، وبطرق تُقارب أساليب العصابات المنظّمة. كان أحدهما، قبل توزيره وتوريطه، يزورنا في منزلنا ويُمضي الليل لدينا، وغالباً ما كانت غرفتي الواسعة مكان استضافته. وقبل النوم، كنا نتبادل الحديث الذي يمتد إلى أطراف الفجر. ومجمل ما كان يتناوله حديثنا الصريح تحليل سياسات الاستبداد والفساد والإفساد السائدة. وإضافة إلى معارفه التكنوقراطية، كانت لديه معرفة فكرية واسعة، فكان من أوائل من كتب بالفرنسية عن علاقة الجيش بالسياسة. أكاد أقول، وأنا كنت أغادر سن المراهقة حينذاك، إن كثيرا من تركيبتي "العقائدية" الأولى نجم عن تلك الليالي البيضاء.
مضت السنون، وعاد إلى البلاد وزيراً، فمرّ بنا كعادته، وكنت قد خُضت في عباب الحياة العملية، وأنهيت قسماً من دراستي، فحذّرته من قبول ما عُرِضَ عليه، مردّداً قول ضابط عرفته في خدمة العلم، عندما سألته عن الفساد، إن المترفّع عن الفساد كمن يقبض على جمرة نارٍ في كفه، سيأتي زمان ومكان سيتخلى عنها. ضحك وزيرنا الصديق، منوّهاً بأن الأمور تغيّرت، وبأن لديه "الصلاحيات الكاملة" من أعلى السلطات، لينجز مشروع إصلاح شامل، بعيداً عن شبكات الفساد المعشّشة في مسامات المؤسسات. انتهى الرجل إلى الموت قهراً، بعد أن حاربه الجميع، وشهّروا به، ولم يحمه لا علمُه ولا أخلاقه، ولا من عيّنه، بل على العكس.
الوزير الثاني، أطال الله في عمره، بعد تعيينه بفترة وجيزة، طُلِبَ منه أن يقدّم تقريراً كاذباً عن 
أوضاع الاقتصاد في مؤتمر دولي، فرفض، وانتهت مهمته. والقاسم المشترك بين الوزيرين أنهما لم يتمكّنا من الاستقالة، وإنما أُقيلا، ففي العرف السلطوي، ليس لأحدٍ أن يستقيل، وإنما يتم تسريحه معزّزاً باتهامات الفساد.
قبل أيام، خرج أهم وزراء الحكومة الفرنسية منها، مُعلناً استقالته على الهواء مباشرةً من إذاعة حكومية، بصوت متهدّج وعيون مليئة بالدموع. إنه نيكولا هولو، وزير البيئة الذي حمل معه إلى الحكومة مشروعات انتقال متدرّج نحو بيئةٍ نظيفةٍ، ليس فقط في الإطار الفرنسي، بل الكوني أيضاً. وقد شعر، بعد سنة من الممارسة، بأن طموحه لن يتحقّق، وبأنه يواجه طواحين جماعات الضغط النووية، كما الصناعية. ولكن الحدث الذي آذاه كثيراً، وبعيداً عن النووي والصناعي، كان حضوره، قبل يومٍ من إعلانه استقالته، اجتماعا ضم ممثلين عن جمعيات الصيادين البرّيين، وهم في أغلبهم من أصحاب الأفكار اليمينية المحافظة، ويصوتون غالباً لأقصى اليمين. وفي مساعيه السياسوية، يحاول رئيس الجمهورية، إيمانويل ماكرون، كسب أصواتهم، وكان قد سبق له أن توجه إليهم بخطابٍ واضحٍ ومتعاطف، إبّان حملته الانتخابية الأولى. في هذا اللقاء الحاسم، قدّم رئيس الجمهورية وعوداً إيجابية للغاية، في ما يتعلق برخص الصيد وأنواع الطيور المسموح صيدها.
إنها العصافير، ليس إلا، إذاً التي دفعت الوزير إلى الاستقالة بعد أن طفح الكيل من حجم 
الضغوط الهائلة التي تمارسها جماعات ضغط مرتبطة بمصالح من لا مصلحة عامة تعنيه. صفّق اليمين المتطرّف والأقل تطرفاً لخروج الوزير، لكن الأخير لم يتنازل عن "معركته" التي جاء عليها بوضوح في أثناء تسليم مفاتيح الوزارة لخلفه، مُشيراً إلى الحلم والطوباوية وإمكانية الإيمان بهما، خصوصاً في الحال الذي وصلت إليه الكرة الأرضية. وقد أطلق، في المناسبة، صفارة الإنذار، مُنبّهاً إلى أن من يفرح بمغادرته هذا المكان المؤثّر سيدفع ثمناً باهظاً، هو أو أولاده، نتيجة التعامل الخفيف والسطحي مع المسائل البيئية.
في الأسبوع نفسه، استقالت وزيرة الرياضة احتجاجاً على تخفيضٍ طرأ على الميزانية المخصصة لوزارتها. وقد غادرت الحكومة بطريقة هادئة، مُدّعية أنها مضطرّة لذلك، لأسباب عائلية. أسلوبان مختلفان، لكنهما يوضحان أن من يُكلَّف بمهمةٍ في دولةٍ ديمقراطيةٍ يعتبر نفسه مؤتَمناً عليها، وليس على السلطة التي تنجم عنها. فكم كان من السهل على الوزيريْن الفرنسيين أن يبقيا في الحكومة، ويحابيا الجو العام، ولا يصارعا الطواحين؟ لكنهما اختارا طريقاً يتناسب مع قناعاتهما. ومؤكّدٌ أن الحياة السياسية لكليهما لن تتوقف عند هذه الحكومة، وسيكون لموقف هولو الأخلاقي تأثير كبير في مستقبل العمل على مسائل البيئة، خصوصاً أنه سيكون أكثر تحرّراً من اللغة الرسمية، وسيواجه بكل صراحة مجموعات الضغط ومن يحميها.
لم يجرؤ الوزير السوري الذي توفّاه الله على الاستقالة، لمعرفته بأن تهمتها وهن عزيمة الأمة، إلى أن صدر مرسومٌ جمهوريٌ بإقالته. أما الثاني، فحاول الاستقالة، لكنه تعرّض للتهديد لكي يتراجع، وتتم إقالته بصورة رخيصة.