لا مساجد في أثينا

كان في أثينا أربعة آلاف مبنى إسلامي بين جامع ومسجد ومدرسة وتكية وحمام وسبيل، حتى القرن التاسع عشر .
ذهبتُ إليها سائحاً ينوي تتبع الآثار الإسلامية التي ذكرها الرحالة التركي، أوليا جلبي، في رحلته المسمّاة "سياحة نامة"، والتي قام بها في القرن الخامس عشر، فقد ذكر أنّ على هضبة الأكروبوليس الشهيرة كان يوجد جامع البارثينيون ومصلى لجنود حامية الحصن، وقريب منها تكية بناها حسين أفندي صاحب الطريقة الخَلْوَتية عام 1616 ميلادية.
وأسفل حصن الأكروبوليس كان يوجد ثلاثة أحياء للمسلمين يعيش فيها مائتا ألف مسلم، وفيها ثلاثة جوامع وسبعة مساجد ومدرسة وثلاثة كتاتيب وتكيتان وثلاث حمامات وخانان للتجار كما توجد في المدينة ثلاثمائة كنيسة.
حاولت الوقوف على أي من تلك الآثار التي ذكرها أوليا جلبي، فلم أجد لها أثرا، بل وجدت هيكل مسجد تمت إزالة مئذنته في قلب ميدان مونستراكي، أهم ميادين أثينا، وقد تم تحويله إلى متحف مغلق حاليا للإصلاح والترميم، وما زالت قبابه وبعض معالمه الخارجية قائمة. كما وجدت مرسوما على جداره الخارجي نجمة داوود السداسية، ولا أدري سبب وجودها.
ظلت عيني تدور وأنا أتجول في الحي القديم المسمّى بلاكا في سفح هضبة الأكروبوليس بحثا عن أي أثر إسلامي، حتى وقعت عيني على لوحة رخامية أعلى أحد بوابات سور المدينة القديم مكتوب عليها باللغة العربية كتابة لم أستطع قراءتها لعدم وضوحها.
سألت دليلتي السياحية في الأكروبوليس عن الأسبلة والحمامات التركية، فهزت رأسها وقالت: "جدتي كانت معتادة على الذهاب للحمام التركي في حي بلاكا، ولكن لا أدري عن وجوده شيئا".
ذهبت أتتبع تلك الآثار في المتاحف، دخلت متحف يهود اليونان، فوجدت مخطوطات لفرمانات عثمانية تتعلق بتنظيم شئون اليهود المقيمين في أثينا. وتملكني العجب حين زرت متحف التاريخ الوطني لليونان، والذي يتناول الفترة الممتدة من الوجود البيزنطي ثم العثماني ثم اليونان المستقلة وصولا إلى الحرب العالمية الثانية فلم أجد أي أثر مصور أو محفوظ من تلك الآثار التي تحدث عنها أوليا جلبي.
استكملت رحلة بحثي وزرت متحف الفن الإسلامي (متحف بيناكي)، وقلت هناك أجد بُغيَتي، فوجدت متحفا بديعا يحوي تحفا فنية عديدة من أرجاء العالم الإسلامي، ولم يكن ضمنها أي آثار إسلامية من أثينا نفسها التي كانت عامرة بالآثار الإسلامية.
تأسفت لضياع هذا التراث الإنساني، وزاد أسفي مع معرفتي بتلك الدراما الإنسانية التي حدثت عند انفصال اليونان عن الدولة العثمانية، فقد عاش الأتراك واليونانيون قرابة الأربعمائة عام، شعبين على أرض واحدة ضمن الامبراطورية العثمانية، حتى استقلال اليونان عام 1823. وفي أثناء حرب الاستقلال تلك حدثت مذابح مشتركة بين الطرفين. وعلى الرغم من ذلك، وبحسب الوثائق اليونانية، كان عدد اليونانيين القاطنين في الامبراطورية العثمانية (خارج حدود اليونان المستقلة) حتى بداية القرن العشرين اثنان ونصف مليون (عدد سكان اليونان الآن 12مليونا)، وظل كذلك أتراكٌ عديدون يسكنون في اليونان حتى نشوب الحرب بين البلدين بين عامي 1919-1922، حيث بدأت اليونان بإيعاز من إنجلترا وحلفائها الحرب ضد الدولة العثمانية الجريحة بغية الحصول على مكاسب. ونتجت عن هذه الحرب اتفاقية لوزان عام 1923، والتي بموجبها تم ترسيم حدود دولة تركيا الحديثة، ونتج عنها أيضاً اتفاقية تبادل السكان بين تركيا واليونان، والتي بموجبها تم التهجير القسري لمليونين من رعايا الدولتين، ومن شروط الاتفاقية عدم السماح للمهجرين اليونانيين من تركيا والأتراك المهجرين من اليونان بالعودة لزيارة ديارهم .
وختاما للسياحة في تلك الدراما الإنسانية، تعيش في أثينا اليوم أقلية تركية تتركز في الشمال، بخلاف مئات الآلاف من المسلمين من مختلف الجنسيات في العاصمة، وبرغم ذلك إنّ أثينا هي العاصمة الأوروبية الوحيدة التي ليس فيها مسجد جامع للمسلمين.