الصين وأفريقيا وصراع النفوذ والمصالح

الصين وأفريقيا وصراع النفوذ والمصالح

08 سبتمبر 2018

قمة منتدى التعاون الصيني الإفريقي في بكّين (4/9/2018/Getty)

+ الخط -
كلما زاد اهتمام الصين واستثماراتها في القارة الأفريقية زاد النقاش في بعض الدول الغربية، ذات المصالح الكبيرة في القارة السمراء، بشأن الحضور الصيني المتنامي فيها وانعكاساته. وتجدّد الحديث عن الهاجس الصيني في الغرب مع القمة الثالثة لمنتدى التعاون الصيني -الأفريقي، في بكين يومي 3 و4 سبتمبر/ الجاري، بمشاركة 53 دولة أفريقية. وهي مشاركة قوية مقارنة بالمشاركة الأفريقية في قمم مماثلة (فرنسا- أفريقيا مثلاً). والجدير بالملاحظة أن القوى الغربية التي لم تفلح في إخراج أفريقيا من براثن التخلف لا تتردد في اعتبار الوجود الصيني المتنامي خطراً على هذه الأخيرة! وإن كانت مسؤولية تخلّف أفريقيا يتحمّلها، في جزئها الأكبر، أهلها، وتحديداً حكّامها.
تم إنشاء المنتدى الصيني- الأفريقي في 2000، في إطار سعي الصين إلى مأسسة علاقتها الإستراتيجية مع أفريقيا. وهي علاقة قديمة، تعود إلى سنوات نضال حركات التحرّر ضد الاستعمار. ويعد هذا القاسم المشترك، بل هذا الإرث التضامني والأيديولوجي ركيزةً أساسيةً للعلاقة الصينية - الأفريقية. وعلى أساسها، تحمل الصين والدول الأفريقية شعارات مثل "المصير المشترك" و"الصداقة بين الشعوب". فيما تتمثل الركيزة الثانية في التوافق الإستراتيجي بين الطرفين، فبحكم طبيعتهما التسلطية، لا تعير الصين والدول الأفريقية أهميةً تُذكر للديمقراطية وحقوق الإنسان. وبالتالي لا تتسبب الاعتبارات الأخلاقية في أي توتّر بينها. على عكس العلاقة بين القوى الغربية والدول الأفريقية التي تعرف أحياناً توتراتٍ بسبب الاعتبارات الديمقراطية، تحت ضغط الرأي العام الغربي. أما الركيزة الثالثة فهي المصلحة الاقتصادية المشتركة.
وتستفيد الصين من أربعة عوامل أساسية في صراعها على النفوذ والمصالح مع القوى الغربية في أفريقيا: الماضي الاستعماري الأوروبي في القارة مقابل التضامن النضالي الصيني - 
الأفريقي التاريخي. الاعتبارات الأخلاقية، بين حين وآخر، في السلوك الغربي مقابل التوافق التسلطي بين الصين وأفريقيا. انسحاب القوى الغربية من قطاعات اقتصادية استثمارية ضخمة في أفريقيا، والتي تتطلب يداً عاملة كثيفة، كالبنى اللتحتية والأشغال العمومية، واهتمامها بقطاع الخدمات والصناعات الإستخراجية لاستغلال المواد الأولية، فتح الباب للصين للاستحواذ على قطاع البنى التحتية، ثم الاهتمام بالصناعات الإستخراجية، حيث انتقلت الصين من مجرّد مقاولة بناء عملاقة إلى مستثمر في الطاقة والخدمات، ما جعلها ترفع أفريقيا إلى مصافّ أولوية إستراتيجية، والهدف أن تحلّ محل القوى الغربية النافذة التي تفقد تدريجياً نفوذها في القارة. رابعاً بحكم البعد الجغرافي، ليست الصين معنيةً بالعبء الأمني في القارّة، فاستثماراتها فيها تبقى إلى حد الآن في منأى عن الهجمات الإرهابية مثلاً. بينما تتحمّل القوى الغربية، خصوصا فرنسا، جزءاً من العبء الأمني في القارّة، نظراً لمصالحها فيها وللقرب الجغرافي، فضلاً عن استهداف الجماعات الإرهابية والمسلحة مصالح فرنسا الاقتصادية ورعاياها.
إذا كان المدخل الأيديولوجي يشكل أرضية توافقية، بل ومشتركة (استبعاد الاعتبارات الأخلاقية، وكل ما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان) تسهّل التعاون بين قوة تسلطية ودول ضعيفة تسلطية هي الأخرى، فإن المدخل الاقتصادي هو القوة الضاربة للانتشار الصيني في القارة الأفريقية، فالصين وعدت، في منتدى بكين أخيرا، شركاءها الأفارقة بدعمهم بمبلغ 60 مليار دولار (قروض عادية وقروض بدون فوائد وتمويل المشاريع الاستثمارية فضلاً عن دعم الصادرات الأفريقية). كما وعدت بإلغاء ديون الدول الأفريقية لديها. ويعد هذا الوعد محاولة صينية لطمأنة القوى الغربية المتخوفة من ارتفاع حجم مديونية الدول الأفريقية.. لكن الصين لم تعد تكتفي بالمبادلات التجارية مع أفريقيا، وبالاستثمارات في مشاريع البنى التحتية فيها وفي القطاع الزراعي، بل بدأت تهتم أيضاً بالشقّين، الصناعي والعسكري. صناعياً، يبدو أن هناك نية لديها لتوطين بعض مؤسساتها الصناعية في دول أفريقية، تكلفة اليد العاملة فيها رخيصة.
أما عسكرياً، فإن إقامة الصين قاعدة عسكرية بحرية في جيبوتي يشكل قطيعةً إستراتيجية في تموقعها في أفريقيا. وهي أول قاعدة عسكرية للصين في العالم، دُشّنت في العام 2017. رسمياً صُممت هذه القاعدة لدعم المهمات البحرية للقوات الصينية في المحيط الهندي وفي الشرق الأوسط، ومحاربة القرصنة والإرهاب، ولدعم عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة. لكنها صُممت أيضاً لإجلاء رعايا صينيين من بلدٍ أو بلدان إفريقية قد تعرف اضطراباتٍ مرتفعة الحدّة، خصوصا مع تنامي العمالة الصينية في الدول الأفريقية. وتعد إقامة القاعدة الصينية في جيبوتي رسالةً ذات مغازٍ إستراتيجية قوية بالنسبة لأميركا وفرنسا، لامتلاكهما قاعدتيْن عسكريتيْن في البلد نفسه (القاعدة الفرنسية الأقدم). زاد هذا الإنزال البحري الصيني في جيبوتي من الهاجس الصيني في الغرب.
هكذا تقدّم الصين نفسها قوة متكاملة في وسعها أن تمدّ القارّة الأفريقية بمختلف الموارد السياسية والاقتصادية والعسكرية. وربما هذه الإستراتيجية المتكاملة هي التي أقنعت دولاً أفريقية (جنوب أفريقيا، السينغال، مصر، المغرب، الجزائر، تونس..) بالانضمام إلى مشروع طرق الحرير الجديد.
بغض النظر عن اختلال الموازين لصالح الصين، فإن المصلحة متبادلة. بالنسبة لأفريقيا الحضور الصيني يخرجها من المواجهة، ووجهاً لوجه مع القوى الغربية، ويخفّف من نفوذ الأخيرة، ما يسمح لها باللعب على التناقضات المصلحية بين القوى الغربية والصين، للحصول على مزايا، بل وتنازلات إن هي أحسنت التفاوض والمساومة. أما الصين فتجد أيضا مصلحتها لأن أفريقيا، عكس أوروبا وآسيا، تعد متنفّساً حقيقياً لها، وربما مستقبلاً مخرجاً لمعضلتها الاقتصادية، والمتمثلة في طبيعة اقتصادها الموجه إلى الصادرات.
إذا كانت المنفعة متبادلة، فإن التفضيلات الإستراتيجية للدول الإفريقية لم تغيّر من وضع القارّة، 
بل حال الأفارقة كحال المستجير بالرمضاء من النار. فتفضيلهم "النفوذ الصيني" هروباً من "النفوذ الغربي" أو على الأقل لموازنته، لا يغير بالضرورة من أوضاعهم، بل التدهور الاقتصادي والتدهور السياسي (وقمع الحريات) يتدعمان بتدهور بيئي، فالحكومات الأفريقية الساعية إلى استغلال ثروات بلادها تضع الأخيرة تحت تصرّف الشركات الصينية والغربية، من دون مراعاة الاعتبارات الإنسانية والبيئية، فرخص الاستغلال التي منحتها دولٌ، مثل الكونغو وأوغندا، لشركات صينية وغربية، تتسبب في الترحيل القسري، ومن دون أي تعويضاتٍ تذكر، لسكان المناطق الغنية بالموارد الطبيعية الباطنية، كما تتسبّب في كوارث بيئية. هكذا أصبح المجال البيئي الأفريقي ساحةً لعبث الشركات الدولية بترخيص وإذن من الحكومات المحلية، وبتواطؤ من الحكومات الغربية والحكومة الصينية.
صارت أفريقيا مسرحاً لصراع النفوذ والمصالح بين الصين والقوى الغربية، خصوصا الولايات المتحدة، فإذا كان وضع أوروبا محسوماً سلفاً، على الصعيدين الأمني والعسكري، بحكم العلاقة التحالفية العابرة للأطلسي، فيما تبقى القارة الأفريقية ساحة للصراع الاقتصادي وسوقاً للمنتجات الصينية. وإذا كانت آسيا قد أصبحت ساحة خلفية للنفوذ الاقتصادي الصيني، بينما يبقى النفوذ السياسي والاقتصادي الأميركي فيها قوياً، فإن القارة الأفريقية، المتخلفة، هي الوحيدة المرشّحة لأن تكون مسرحاً لاحتدام التنافس بين القوى الكبرى التقليدية منها (الولايات المتحدة، فرنسا، أوروبا..) والصاعدة (الصين، الهند، البرازيل..).