عن الاسترقاق في الإسلام

عن الاسترقاق في الإسلام

06 سبتمبر 2018
+ الخط -
(1)
يشكر الكاتب حسني عايش، في مقالة له في صحيفة الغد الأردنية، من يدلّه على خليفةٍ أو مسؤولٍ إسلاميٍ في الماضي حرَر ما لديه من إماءٍ وجوارٍ وعبيدٍ ومماليك، وكتب "على الرغم من دعوة الإسلام إلى تحرير العبيد، فإننا لم نسمع أو نقرأ عن خليفة أو مسؤول إسلامي في الماضي حرّر ما لديه من إماءٍ وجوارٍ وعبيد ومماليك، أو عن فقيه أو مفكر إسلامي دعا إلى تحريرهم. شكراً لمن يدلّني عليهم". استثار هذا النص، كما يبدو، صديقنا الدكتور محمد هلال، وهو أحد المهتمين بالفكر الإسلامي وقضاياه المعاصرة، على الرغم من تخصصه العلمي طبيبا في الغدد الصماء، حاول أن يوصل ردّه على زميلنا الدكتور عايش إلى أكثر من منبر، فلم يفلح. وبعد أن أعيته الحيلة، بعث لي جملة من الوقائع التي تشكل، في مجملها، بمثابة الجواب على سؤال حسني عايش.
(2)
يكتب أبو عبيد القاسم بن سلام (157-224 هجرياً) في كتابه الأموال (ص 195، طبعة دار السلام، 2009، تحقيق محمد عمارة): ".. وكذلك حكم عمر فيهم أيضاً حتى رد سبي الجاهلية وأولاد الإماء منهم أحراراً إلى عشائرهم". وعليه، فإذا كان عمر بن الخطاب قد ردّ سبي الجاهلية، فهذا يعني ضمناً أن الإسلام لم يُحدِث سبياً، لأنه لا معنى لإحداث سبيٍ في الإسلام ورد سبي الجاهلية. وهكذا، يكون عمر قد حرّر الرقيق قبل أبراهام لنكولن بأحد عشر قرناً، من دون أن يتسبب في حربٍ أهليةٍ طاحنةٍ كحرب الانفصال الأميركية.
كان الشرع الإسلامي، بنظامَيْ العتق والمكاتبة، قد خفَض عدد رقيق الجاهلية إلى أقليةٍ ضئيلةٍ، بحيث لم توجد أي مشكلة اجتماعية عند إطلاق من كانوا قد تبقوا منهم زمن عمر (رضي الله عنه)، ولم يتكون غيتو خاصٌ بهم، كالذي لا تزال تعاني منه الولايات المتحدة الأميركية في الانفصال المادي والشعوري بين البيض والسود، وما مظاهرات السود في ستينيات القرن الماضي ومقتل مارتن لوثر كنغ ومالكولم إكس منا ببعيد.
على أن ما حصل بعد ذلك في تاريخ المسلمين من استرقاقٍ وسبيٍ ونخاسةٍ يُحسب على 
المسلمين، وليس على الإسلام، فقد تجاوز الأمويون، والذين عادوا إلى ممارسات الجاهلية، بحيث اضطر عمر بن عبد العزيز إلى تحرير اللواتيات (نسبة إلى قرية لواته المغربية) اللاتي سباهن الغزاة. كما قام سليمان بن عبد الملك بتحرير عددٍ كبيرٍ من الرقيق في زمنه (راجع كتاب محمد حسن عواد "سليمان بن عبد الملك محرّر الرقيق"، دار الشعب، القاهرة، 1971). وقد شرعن كثيرون من فقهاء السلاطين الممارسات السلطوية، فقالوا إن تحرير الرقيق ومنع السبي هو في العرب خاصةً، لأنهم لا يجري عليهم رق (كتاب الأموال، ص 197). ولم يجد محقق الكتاب تعليقاً على هذا إلا قوله إنه "حديثٌ ذو دلالةٍ على مكانة العرب الاجتماعية في الدولة الإسلامية" (ص 195). وهكذا أجازوا استرقاق غير العرب. ولعل للفتنة العربية الفارسية اليوم جذوراً من هذا التفريق. ولم يلتفت أحدٌ إلى أنه في الإسلام "لا فضل لعربيٍ على عجميٍ ولا لعجميٍ على عربيٍ إلا بالتقوى)، كما قال عليه الصلاة والسلام في خطبة الفتح، ثم تلا قوله تعالى: "يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
أما كيف تم تغييب حقيقة تحرير الإسلام الرقيق ومنع الاسترقاق، فلا بد من الانتباه إلى أن اهتمام "المشايخ" كان دائماً بتبرير الأمر الواقع وشرعنته، لا بتبرئة الإسلام من مساوئ هذا الواقع، والمشايخ، إلا من رحم ربي، هم دائماً على دين سلاطينهم، وما فتاوى قيادة النساء السيارات منا ببعيدٍ بين تحليلٍ وتحريمٍ على الطلب.
ويقول ابن سلام بشأن أخذ بني أمية الجزية ممن أسلم من الموالي: "وإنما احتاج الناس إلى هذه الآثار في زمان بني أمية، لأنه يروى عنهم أنهم كانوا يأخذونها منهم وقد أسلموا، ولهذا استجاز من استجاز من القرّاء الخروج عليهم" (ص 115)، ومعلومٌ أن أكثر القراء كانوا من الموالي.
وكمنهجٍ لمعرفة الحقيقة التاريخية، وتنزيه الإسلام عن كثيرٍ مما ألصق به، لا بد من القراءة بين السطور في كتب التاريخ والتراث، أو مزاولة ما يشبه في أبحاث النقد التاريخي ما يسمى النقد التوجهي (Tendenz Criticism)، أي التقاط الإشارات والروايات المعاكسة للتوجه السائد، وذلك لأن بعض المشايخ كانوا ربما تأخذهم الصحوة الضميرية، فيسرد الروايات المتعاكسة جنباً إلى جنبٍ، لينتبه إليها من يحالفه التوفيق، وقد أشار إلى ذلك نيازي عز الدين، في كتابه "دين السلطان".
‏‫(3)
هذا جل إن لم يكن كل ما رآه الدكتور محمد هلال في رده على الكاتب حسني عايش، وهو مؤشّرٌ شديد الوضوح على انقطاع حبل الحوار بين المشتغلين بالهم العام للأمة، خصوصا في ظل استسهال الكتبة الهجوم على مبادئ الدين، وتخاذل "مشايخ" كثيرين عن نصرته، خوفا أو طمعا، واشتغالهم سدنةً لتشريع موبقات الحكام قديما وحديثا.