شعور قاتل للكتابة

شعور قاتل للكتابة

06 سبتمبر 2018

(محجوب بن بلة)

+ الخط -
نعم، ما زلت مصرّةً على أن الكتابة هي الحل، وما زلت أراها من أجمل خيارات الإنسان في هذا الوجود، وما زالت واحدةً من أمنياتي المعلقة على قيد الأمل المستمر. ولكن بشرط أن نقبل عليها مؤمنين بقدرتها على أن تكون الحل، حتى لو لم يكن بالصورة المتوقعة للآخرين، فأجمل الحلول تلك التي تنفذ إلى قلب المشكلة، من حيث لا يحتسب ولا ينتظر أحد. لكن الإيمان بالكتابة، وبقدراتها السحرية الكثيرة، ينبغي أن يسبقه إيمانٌ بالجدوى. لا بجدوى الكتابة وحسب، بل بجدوى محاولات البحث عن حلول لكل المشكلات العالقة أمامنا، أو تلك العالقين بها. وإلا لأصبح انتظار الموت الحل الوحيد لكل مشكلات الحياة. وما لهذا خلقنا، ولا له نسير، على الرغم من أنه اليقين النهائي الوحيد للكائن البشري.
لا شيء، إذن، مثل الشعور باللاجدوى يمكن أن يقتل رغبة الكاتب في الكتابة، ولو مؤقتا، بل لا يأتي ذلك الشعور أساسا إلا بصورة مؤقتة، وعبر تسلله الجبان من فجوات العجز.
كلما دهمني ذلك الشعور في واحدةٍ من نوبات اليأس، إثر معايشة ما يحدث لنا، عزفت عن الكتابة الصحافية، وعكفت على كتاباتي الخاصّة، شعرا ونثرا، والتي أعرف أن أحدا لن يراها برغبتي على الأقل. والغريب أن هذا الشعور غالبا ما يكون قاهرا لكل شيء، على الرغم من جبنه وهشاشته في الأحوال العادية، ذلك أنه لا يأتي إلا بعد أن نكون قد استنفدنا كل محاولاتنا في مقاومته بالكلمات، فيصل أخيرا لينتقم من تلك الكلمات باحتلال كل فراغاتها في الروح.
ومن تجاربي، أنني أتحاشاه دائما، وأنجح غالبا، لأنني أريد أن أستمرّ في الكتابة الصحافية التي يختلط فيها ما هو ذاتي بما هو موضوعي، وتوصيل كلماتي إلى من أعتقد أنه يستحقّها، على الرغم من يقيني، في تلك الحالات التي أمرّ بها وتمرّ بي، أنها لن تجدي نفعا في معالجة أي مشكلة، أو رفع الخطر المُحدق بمن وبما أحب من الناس والجماعات والأمكنة والبلدان.
لماذا أكتب إذن؟ لم أدّع يوما أنني، بكتاباتي الصحافية، أستطيع ذلك، حتى فعلتها بالمصادفة وحدها، لكنها على الأقل إشاراتٌ في طريق موحش وطويل، لي قبل أن تكون لغيري، لكي أواصل الحياة على هامش الكلمات، وربما من خلال ذلك يرى فيها من يودّ إشاراته الخاصة في طريقه الموحش الطويل أيضا. وما أكثر طرقنا الموحشة التي تكاد لطولها لا تنتهي أبدا.
قبل قليل، وأنا أستعد لكتابة مقالتي الأسبوعية هنا، وصل إلي خبر حزين مؤكد، يتعلق بمصير شخصيةٍ أعرفها تتعرّض لظروفٍ سيئة. وبسرعةٍ تذكّرت ذلك الشعور الذي يزروني في الحالات المشابهة، حيث أقف عاجزةً تماما، لا عن كتابة ما أودّ كتابته بوضوح ومباشرة وحسب، بل أيضا عن الكتابة نفسها، فلا شيء كالشعور بالعجز يولّد التفكير بعدم الجدوى من كل شيء في هذه الحياة. ولا شيء كعدم الجدوى، يمكن أن يسلمنا لليأس الذي يجعل من أشياء مهمة وضرورية في حياة الكتاب، وكأنها ترفٌ زائدٌ من الحد، وفائضٌ من فوائض البقاء في هذا الوجود ذي الخيارات المتعدّدة.
لكن الخيارات تضيق بالنسبة لي، وأنا التي أؤمن تماما بأن الكتابة هي الحل، فكيف إن عجزنا عنها لأننا نشعر بعدم جدواها؟ ها هو مقالي دليلٌ جديدٌ أثبت لنفسه بواسطته على أن الشعور بلا جدوى الكتابة لا يمكن أن تنجم عنه كتابةٌ جيدة، وبالتالي لن تكون هي الحل.
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.