استيطان النيات الحسنة والاحتلال الديلوكس

استيطان النيات الحسنة والاحتلال الديلوكس

06 سبتمبر 2018
+ الخط -
ربما يأتي وقتٌ يجري فيه اعتبار الاحتلال الاستيطاني الكولونيالي الإسرائيلي شرعيا، فيما لو جرى اعتبار أنه تم "بحسن نية"، كما حصل أخيرا، حين قضت محكمة إسرائيلية بأنه يمكن تنظيم بؤرة متسبيه كراميم وشرعنتها، بدعوى أن الاستيلاء على الأرض الفلسطينية التي بنيت عليها تم وفق ما سمّته "حسن نية". يأتي هذا في وقتٍ، تزامن مع الكشف عن عمليات مصادرة وسلب ونهب أراضٍ جديدة في الضفة الغربية المحتلة، تحت أنظار السلطة الفلسطينية، ومراقبتها، وربما توثيقها ما يجري، من دون أن تجرؤ على الانتفاض، أو الاعتراض على سرقة مزيد من أراضي المواطنين الفلسطينيين  ومصادرتها، وبناء بؤر استيطانية غير شرعية، يمكن شرعنتها فيما بعد، بالطريقة نفسها التي تمت فيها شرعنة بؤرة متسبيه كراميم؛ حين قبل القاضي في المحكمة المركزية في القدس المحتلة، أرنون دريئيل، مزاعم المستوطنين، على أساس ما سمّي "نظام السوق" الذي يمكن بموجبه تنظيم بؤرة غير قانونية وشرعنتها، إذا ثبت أن الاستيلاء على الأرض تم بـ "حسن نية". ووفقاً للقرار الذي يعتبر سابقة، فإن المستوطنين يسيطرون على الأرض بشكل قانوني، ولا تستطيع الإدارة المدنية إلغاء اتفاقية الترخيص، ويملك سكان البؤرة الاستيطانية الحقوق على الأرض، ولا يُسمح للفلسطينيين بطردهم منها.
وقد أقيمت البؤرة المذكورة عام 1999 بالقرب من مستوطنة كوخاف هشاحر، بعد أن تم نقلها من منطقة أخرى، بالتنسيق مع سلطات الحكومة الاسرائيلية التي وعدت السكان بأنه سيتم تنظيم البؤرة في موقعها الجديد. وقد منحت شعبة الاستيطان تصاريح باستخدام الأراضي، وتم إنشاء منازل البؤرة الاستيطانية بناء على ذلك.
يبدو أن "حسن النية" هذا، ذات الطابع الاستيطاني، المغطى احتلاليا من المؤسسة الحاكمة في 
كيان العدو، يأتي بالترافق مع "حسن نية" من المؤسسة الرسمية الفلسطينية، وهي تشهد وضعا مأساويا تسوده الفوضى والتمزّق، فيما هي تشهد على مزيد من خطوات التنكيل بها من الاحتلال، وهو يمضي، في ظل ضعفها وتشرذمها، نحو مزيد من خطوات تكبيلها سياسيا واقتصاديا وأمنيا، من دون أن تقوى على أي حراكٍ جدّي، من قبيل تطبيق قرارات المؤسسات الرسمية للنظام السياسي الفلسطيني، المعطلة من المؤسسة الرئاسية، بتواطؤ مكشوفٍ من أعضاء تلك المؤسسات، وقد باتت خاضعةً بدورها لفردانية "المؤسسة الأولى" وذاتيتها، واستبدادية قراراتها وتوجهاتها الفئوية، واعتبار أنها صاحبة القرارات الملزمة، بعيدا عن أية أطر جماعية ملزمة؛ وقد كانت يوما ما كذلك، لكنها في ظل فوضى إدارة الشأن العام، بل فوضى النظام السياسي نفسه، وضياع الحدود الفاصلة بين سلطات منظمة التحرير المفقودة وهيمنة سلطويي السلطة وسيطرتهم على كامل إدارة الشأن العام الفلسطيني، بعيدا عن كفاحية حركة تحرّر وطني لم تنجز أيا من أهدافها بعد، كل هذا لا يجعل من القرارات الفردية صائبةً بالضرورة، كما لا يجعل من معارضتها الشكلية فئويا وفصائليا صائبة بالضرورة كذلك، من دون توجّهات جدّيةٍ لاستنباط أفعال كفاحية، توقف التدهور العام عند حدّه.
علاوة على ذلك كله، فإن ما يجري على الطرف الآخر من محاولات التوصل إلى "صفقة تهدئة" في غزّة إنما هو نوع آخر من "حسن نية"، ثمنها أكثر بكثير مما يُعلن عنه، ومما لا يعلن عنه من مقاربة "السلام الاقتصادي" مرة، ومن مقاربات "صفقة العصر" مراتٍ أخرى.
واقع الضياع الفلسطيني، والحالة هذه هنا، لا يؤشر إلى أي نوع من "الاستقلالية" التي طالما جرى التغنّي بها، وعطفها على وطنية مملوكة لـ "أهل القيادة" هنا، وهي من شيم "أهل السلطة" الموازية هناك. وفي الحالين، جرت إضاعة القضية بفقدانها من ينافح ويكافح من أجلها، وباتت المنافحات "الكفاحية" الزائفة تتمحور حول الاحتفاظ بالسلطة هنا، وبمكاسب السلطة وإنجازاتها هناك. وبات الكل يفقد زمام المبادرة تماما، انتظارا لما قد تأتي به رياح الوساطات والتدخلات الإقليمية والدولية، المعنيّة بأهدافها ومراميها هي، من دون الالتفات أو الاستجابة لمرامي سلطتي أوسلو الأولى أو الثانية؛ وإنما يجري تمثل الأهداف الإسرائيلية – الأميركية بالدرجة الأولى.
ووفق النهج الكيسنجري للمفاوضات، تعمل إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب اليوم، ومنذ الأيام الأولى لدخولها البيت الأبيض، على فكفكة ملف المفاوضات، خطوة خطوة، وقضية وراء أخرى، بدءا من إخراج مسألة القدس، وتثبيت مسألة الأمن نهائيا عبر تقديس "التنسيق الأمني" ودفن مسألة الاستيطان، بزعم تبادل أراضٍ بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وصولا الآن إلى ما تسعى إليه الولايات المتحدة، وإدارتها الترامبية تحديدا، من محاولات إلغاء قضية اللاجئين، مقدمةً لإلغاء حق العودة، عبر الالتفاف على قضية الشعب الفلسطيني الوطنية، والتقليل من أعدادهم، واعتبار اللاجئ فقط هو من لجأ في عام النكبة (1948)، من دون احتساب الأبناء والأحفاد، مقدّمة لإلغاء حقوق اللاجئين وحق عودتهم إلى ديارهم وممتلكاتهم.
واستكمالا لـ "حل" قضايا المفاوضات، أو نسفها، كما وردت وترد في الذهن الترامبي، كما وفي الذهن الإسرائيلي، وفي هذا السياق، يجري اليوم حجب الأموال عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في محاولة لتصفيتها، مقدّمةً لتصفية قضية اللاجئين، الأمر الذي اضطر المفوض العام للوكالة، بيير كرينبول، إلى الإعلان، في رسالة مفتوحة وجهها إلى لاجئي فلسطين وموظفي "أونروا" يوم الأول من سبتمبر/ أيلول الجاري، عبّر فيها عن رفضه، وبلا تحفظ، النص الأميركي المصاحب لقرار وقف الدعم الكامل عن الوكالة. وقال: "إن الحاجة إلى عمل إنساني تنشأ جرّاء العنف الشديد والألم والمعاناة والظلم التي تسبّبها الحرب. وفي حالة لاجئي فلسطين، سبّبها التشريد القسري ونزع الملكية وفقدان البيوت وسبل المعيشة، علاوة على الاحتلال وانعدام الدولة. وبغض النظر عن عدد المحاولات التي تم القيام بها من أجل تقليص أو نزع شرعية التجارب الفردية والجماعية للاجئي فلسطين، فالحقيقة التي لا يمكن إنكارها تبقى أن لديهم حقوقا بموجب أحكام القانون الدولي، وأنهم يمثلون مجتمعا قوامه 5.4 ملايين رجل وامرأة وطفل، لا يمكن ببساطة القيام بإلغاء وجودهم".
وفي هذه الحالة، ما الذي يتبقّى من القضية الوطنية للشعب الفلسطيني، وما الذي يمكن التفاوض عليه، إذا ما نجحت الإدارة الترامبية – الإسرائيلية لملف المفاوضات في دفن أسس التفاوض 
ومبادئه، ومعه إفقاد عنصر الشراكة من الجانب الفلسطيني، عبر إغراق الكل الفلسطيني في مستنقعات الفوضى والتفلت والتصارع على وراثة إرث "السيد الرئيس"، وفرض حالة طوارئ شللية وزاروبية، مدعومة من أطراف فئوية هنا وهناك، داخليا وإقليميا؟ فأي مواجهةٍ يمكننا أن نشهد لصفعاتٍ تتعدّد مصادرها وأطرافها، فيما الوضع الوطني العام فلسطينيا يشهد مزيدا من التفكّك "القيادي" والتبعثر الفصائلي والإحباط الجماهيري؟
المقاومة الجادة لصفقة القرن ومواجهة صفعاتها، لا تكونان بالقعود على قارعة انتظار هذا الفعل الأميركي، أو ذاك الإسرائيلي؛ أو الوساطات الإقليمية، بل بأفعال ومبادرات كفاحية وجهود موحدة، ومحاولات الاقتراب من تكتيل كل القوى في مواجهة كل الهجمات التصفوية التي تتعرّض لها قضية شعب فلسطين الوطنية، وهي الأقدس من مسائل السلطة والتسلّط والاستبداد، والشراكة مع الاحتلال، وتقاسم ما تبقى من أرض فلسطين، وبعض ما تبقى من شعبها، وطالما استمر بعض الفلسطينيين في فرض "نيّاته الحسنة" بديلا من الفعل الكفاحي الملزم، وتأطير الأهداف الوطنية، فهو، في النهاية، لن يجد أرضا لدولته الموهومة؛ لا في الضفة الغربية ولا في قطاع غزة، فالاستيطان الاحتلالي، وقد بات يقوم على بدعة قضائية قانونية تتأسس على "تراضي الأمر الواقع"، واحتكامه إلى "حسن نيات" طرفي الصراع، مثل هذا الاستيطان لا يمكن إزالته بأشكال من التفاوض الرخو والهش، وإنما بمقاومةٍ شعبيةٍ صلبة وعنيدة، تؤمن بقيم التحرّر الوطني ومبادئه الكفاحية، وتطعن على الدوام بسوء نيات عدوٍّ استولى ويستولي على أرض وطن وممتلكات شعب كامل، بادّعاءات وأساطير خرافية ومزاعم توراتية وتلمودية لا سند لها بالمطلق؛ باعترافات علماء آثار يهود وغربيين منصفين، شهدوا ويشهدون بالحق، فيما غيرهم، ومن محسوبين علينا، شهدوا ويشهدون لصالح الباطل التوراتي، ويريدون منا وفق "نيّاتهم الحسنة"، ومطامعهم ومطامحهم السلطوية، أن نتبعهم ونشهد لباطلهم أنه الحق، وهذا من سابع المستحيلات، بل من عاشرها.
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.