ظلال المواجهة التركية الأميركية

ظلال المواجهة التركية الأميركية

05 سبتمبر 2018
+ الخط -
تبدّل الحال بتركيا في مشهدٍ وكأنّه قطعة مكثّفة من الدراما التركية المبالغ في حبكتها المأساوية. منذ نهاية يوليو/ تموز، بدأ النذير الإعلامي جَلَبَته، ناعياً النموذج التركي للنمو، ومصورّاً حالة مثول تركيا على حافّة الانهيار، والتي لو استمر بها الحال على هذا النحو ستعمل السطوة الإعلامية على دقّ أول مسمار سياسي في نعش المشهد التركي.
ما يجري في تركيا تتابعه بشكلٍ خاص الدول التي ربطت استثماراتها القليلة بزيارات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وكأنّها التمست بركاتِه في محاولةٍ منها أن تخطو نحو النموذج التركي. أما الدول الغربية فهي على قناعةٍ بأنّ أردوغان يقود تركيا نحو الهاوية، ويتمنّون لو تعود إلى ما قبله. كما بدا واضحاً أنّ دول الاتحاد الأوروبي تتحفّظ على إدارة أردوغان لاقتصاد البلاد، وإطلاقه الاستراتيجية المالية، المتعلقة باستخدام مشاريع البنية التحتية الضخمة وضخّ أموال الدولة للحفاظ على استمرار الاقتصاد، فقد تم تشبيه هذه الاستراتيجية ببرنامج الإصلاح "بريسترويكا - إعادة البناء" و"غلاسنوست – الدعاية القصوى والشفافية" التي أطلقها ميخائيل غورباتشوف عام 1985، وهي الشعارات التي عجّلت بنهاية الاتحاد السوفييتي، بوصفه قوة في مواجهة الولايات المتحدة  نسبة لنتائجها الكارثية.
أعادت قصة العداء المُعلن بين أميركا وتركيا إلى الأذهان الجدل القائم حول هذه العلاقة ما بين العداء الحقيقي والتشكيك فيها، فالمواجهة، في جانبها الحقيقي، تتمثّل في رفض السلطات 
الأميركية تسليم المعارض والداعية التركي، فتح الله غولن، المقيم في الولايات المتحدة، والذي تتهمه أنقرة بالوقوف وراء محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة منتصف يوليو/ تموز 2016. بالإضافة إلى خلاف مهم آخر بين الجانبين، هو أنّ تركيا ترى أنّ الولايات المتحدة تدعم حزب العمال الكردستاني والقوات الكردية في سورية. واستمرت عملية التصعيد إلى أن تدهورت العلاقات بينهما، بسبب رفض تركيا الإفراج عن القس الأميركي، أندرو برانسون، المحتجز منذ عام 2016، والذي تتهمه تركيا بالتجسّس والإرهاب.
أما ظلال المواجهة فقد نشأت على أمل تأسيس تعاون أميركي تركي قوي، وظهر ذلك في اللقاء بين الرئيسين أردوغان ودونالد ترامب في واشنطن في 16 مايو/ أيار 2017، كما أصبح أقرب إلى التأكيد في اللقاء الثاني بينهما في 21 سبتمبر/ أيلول من العام نفسه على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، حتى أنّ ترامب صرّح بأنّ أردوغان أصبح صديقاً له، وصار أقرب كما لم يكن عليه أبداً. وبعد ذلك، تكشّفت هشاشة التعاون المحتمل، فالولايات المتحدة أرادت من تركيا لعب دور رئيسي إلى جانبها في تحجيم النفوذين، الروسي والإيراني، داخل سورية. ولكن لعدم إبداء ترامب أي نيات حسنة، ما كان من أردوغان إلّا أن سعى إلى التقارب مع روسيا وإيران، ما استلزم من الولايات المتحدة أمراً لم يُسعفها الزمن للقيام به. كان ذلك هو استخدام أدواتها من أجل استعادة تركيا حليفا لها، وتوسيع الدعم الاقتصادي لها، وزيادة التعاون معها في المجالين، العسكري والاستخباراتي، في سورية.
معلوم أنّ الاستراتيجية الأميركية نحو تركيا تهدف إلى إضعافها، بوصفها حليفا قويا لعدد مقدّر من دول الشرق الأوسط، خصوصا مع شعبية أردوغان المتزايدة هناك، من خلال العمل على عوامل داخلية وخارجية. كما أنّ هذه الاستراتيجية تقابلها أخرى تركية، تهدف إلى صمود تركيا على المدى المتوسط، بانتظار انتهاء ولاية ترامب. واللافت أنّ هذه الاستراتيجية تنتهجها قوى دولية محورية، مثل إيران والصين وروسيا، في تعاملها مع أميركا.
يحمل واقع الحال إشارات إلى استمرار المواجهة في العلاقات التركية الأميركية. وهذا الأمر رهين بالاستمرار المحتمل للأزمات الإقليمية، كما في العراق وسورية، فحتى لو تم إطلاق سراح القس أندرو برانسون، فإنّ هناك مشكلات قائمة، من الصعب غضّ الطرف عنها. في الواقع، ردة الفعل الأميركية بفرض تعريفات جمركية مضاعفة على الواردات من الصلب والألومنيوم هي تصعيد لإحداث أعلى مستوىً من الضرر ضد دولة حليفة، لا تتناسب مع رفض تركيا إطلاق سراح أندرو برونسون الذي ذهبت المفاوضات بشأنه خطواتٍ قبل اشتعال الأزمة. وسيضرّ هذا القرار، لا محالة، بالاقتصاد التركي، ولكن سيمتد الضرر إلى الاقتصاد العالمي. وإزاء هذه الاحتمالات، بادر أردوغان إلى رفض لغة التهديدات الأميركية بقوله في 
مؤتمر حزبه، العدالة والتنمية، في أنقرة، في 18 أغسطس/ آب 2018م بعدم الرضوخ للذين يقدّمون أنفسهم شركاء تركيا الاستراتيجيين، في حين أنهم يعملون على جعلها هدفاً استراتيجياً.
ربما يجني أردوغان فائدةً مؤقتةً بأن تغطي هذه المواجهة على مظاهر العجز الداخلية، مثل ارتفاع التضخم والديون، نتيجة اعتماد الاقتصاد التركي على الاستثمار الأجنبي، ما يجعل السخط الشعبي يتوجه بكامله إلى الولايات المتحدة. وقد بدأت تتحوّل الحملة الشعبية بالفعل إلى تظاهرة قام بعضهم خلالها بتدمير المنتجات الغذائية وإطلاق النار على الأجهزة الإلكترونية التي تحمل العلامات التجارية الأميركية، تعبيراً عن معارضتهم موقف واشنطن من زيادة الرسوم الجمركية على الواردات التركية. ومع أنّ أردوغان لا يفتقر للشعبية، وقد كانت الفرصة مواتية أمامه لتخفيف سيطرته على الجهاز البيروقراطي والإعلام والقضاء، إلّا أنّه عوضاً عن ذلك أصدر أخيرا الأمر الرسمي بضرورة تعليق صوره في مداخل المؤسسات الحكومية جنباً إلى جنب مع صور مصطفى كمال أتاتورك، أول رئيس للجمهورية التركية، وقائد الحركة الوطنية.
على الرغم من أنّ مواقف ترامب لا يمكن التنبؤ بها، إلّا أنّ تراجع التحالف الاستراتيجي بين تركيا والولايات المتحدة يجعل مستحيلا تجاهل مزيد من التغيّرات. سيصبح من العسير على ترامب اتخاذ إجراءات إضافية ضد تركيا، إذا لعبت على عامل الزمن، لتجد طريقة ترفع عنها الحرج، وتجد المخرج المناسب للإفراج عن القس أندرو برانسون. وإذا فعلت ذلك، ستقطع الطريق على ترامب الذي يلعب على وتر الإنجيليين الداعمين له. وبما أنّ الدول المحيطة بتركيا من غير الدول الغربية يصعب عليها إنقاذها من العجز المالي، فإنّ مناطحة الحلفاء الغربيين التقليديين ستعمل على مزيدٍ من الانهيار، ما يستلزم توجه تركيا صوب الاتحاد الأوروبي، خصوصا فرنسا وألمانيا، إذا زادت الولايات المتحدة في تعنّتها.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.