السعودية وكندا.. من سيتراجع أولاً؟

السعودية وكندا.. من سيتراجع أولاً؟

05 سبتمبر 2018
+ الخط -
يكشف تحليل الأزمة الراهنة بين أوتاوا والرياض عن متغيرات استراتيجية جديدة، تشير إلى فداحة أخطاء السياسة الخارجية السعودية، في هذه المرحلة الانتقالية التي يشهدها النظامان الإقليمي والعالمي، والتي قد تؤدّي إلى "تراجعاتٍ مضطردة" في مكانة الرياض ووزنها الإقليمي. وتقتضي هذه الأزمة "المفتعلة" من الرياض تحليل الدوافع السعودية أولاً، ثم سياق الأزمة ومآلاتها المحتملة.
بالنسبة لدوافع الرياض، ثمّة ثلاثة اعتبارات مترابطة، تعكس بوضوح تفاقم أزمة السياسات السعودية داخلياً وخارجياً. ويمكن على ضوئها فهم مظاهر الاندفاع، وتراجع العقلانية، وضعف الحسابات الرشيدة، وتدني مستوى المؤسسية في السعودية، لمصلحة "شخصنة" عملية صناعة القرار، سواء في الأزمة مع كندا، أم غيرها من الأزمات مع اليمن وقطر وإيران وتركيا.. إلخ.
أول الاعتبارات، إعادة رسم صورة السعودية وقيادتها الشابّة الجديدة، بوصفها "لاعباً حيوياً يتمتع بالقدرات الأمنية والعسكرية والاقتصادية"، اللازمة لإعادة تشكيل المشهد في الخليج واليمن والعالم العربي والشرق الأوسط، بما يخدم تدعيم التحالفات الخارجية للرياض، وتأمين استمرار الدعم الدولي تحت قيادة محمد بن سلمان، وخصوصاً الدعم الأميركي، وبدرجة أقل البريطاني والفرنسي.
وبالإضافة إلى الإغراء بالصفقات الاقتصادية والتجارية والعسكرية؛ أي استخدام "دبلوماسية 
الريال"، تلعب الدعاية دوراً محورياً في هذا المستوى. وهو ما يمكن أن يفسّر تكرار أزمات السياسة الخارجية السعودية، بمجرّد ظهور أي إخفاقاتٍ لا يمكن معالجتها عبر إغراءات مالية، أو سياسات علاقات عامة، تروّج صورة دعائية مضلّلة عن "السعودية الجديدة". وفي حال تجرؤ أي طرف، داخلي أو خارجي، على انتقاد السياسات السعودية، يتم اللجوء إلى أدوات "انتقامية"، استناداً إلى ما يتمتّع به بن سلمان من حظوة لدى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. فإذا كان النقد داخلياً تُستخدم أدوات الضغط والترهيب المختلفة، مع الناشطات النسويات والعلماء والأمراء وأصحاب الرأي المخالف. أما إذا جاء النقد من طرف خارجي (مثل ألمانيا، أو السويد، أو كندا، أو المنظمات الحقوقية)، فتلجأ الرياض في عقاب "منتقديها" إلى مساحات "صادمة"، قد تؤذي المصالح السعودية نفسها، ما دام ذلك يصبُّ في خدمة حروب ترامب، المالية والتجارية، ضد كندا أو غيرها.
الاعتبار الثاني تخلي السعودية عن "التوازنات السابقة" التي حكمت سياساتها ردحاً من الزمن، والتركيز على ارتجال "تكتيكاتٍ" جديدة للتحالفات، على الصعيدين الداخلي والخارجي.
داخلياً، يتحكّم منطق "إظهار الولاء الشخصي، وكيل المديح" لولي العهد وسياساته "التحديثية/ الإصلاحية"، مع تطبيق قاعدة "من ليس معنا، فهو ضدنا"، ومصادرة "حق الصمت". ولعل هذا يفسّر تصاعد "سياسة الاعتقالات"، و"تكميم الأفواه"، وهي السبب الرئيس للأزمة الراهنة مع كندا، والتي تنطوي على أبعاد اقتصادية، لكن دوافع الرياض تبقى سياسيةً أساساً، تتعلّق بتوجيه "رسالة استباقية"، لمنع أي تضامن محتمل مع أوتاوا وموقفها (سيما من أوروبا)، بشأن اعتقال الناشطات السعوديات.
أما خارجياً فتتبنّى الرياض، مدعومةً من واشنطن، "تكتيكاتٍ جديدة" في الخليج واليمن والشرق الأوسط، تقوم على إقصاء الخصوم، واستمراء التصعيد، عبر تكثيف استخدام الأدوات الإكراهية في السياسة الخارجية السعودية، من قبيل: الحصار البحري، والتلويح المتكرّر باستخدام الأداة العسكرية وشنّ الحملات الدبلوماسية والإعلامية، لإظهار قدرة بن سلمان و"حزمه"، خصوصاً في حرب اليمن وحصار قطر. هذا فضلاً عن توظيف أدوات التخريب الاقتصادي، والتورّط في حروب مالية/ اقتصادية/ نفطية، ضد دولة خصم (مثل إيران وتركيا). والوجه الآخر لهذه السياسة الخارجية هو حصر استخدام الأدوات التوفيقية، مثل الزيارات الدبلوماسية والتنسيق السياسي/ الاستراتيجي، وتقديم المساعدات والمنح المالية، في إطار استمالة "الحلفاء المخلصين"، خصوصاً الإمارات ومصر والبحرين.
الاعتبار الثالث هو انتهاج الرياض سياسة "تصدير الأزمات الداخلية للخارج"، وافتعال أزمات أو "مواجهات دبلوماسية تكتيكية"، بغية تشتيت الأنظار عن مشكلات الداخل السعودي، ورغبةً في تحصيل دعم شعبي "شحيح"، في مواجهة "خصمٍ خارجي، حقيقي أو مُفترض"، ينتهك ما تسمّى "الخصوصية السعودية"، أو "السيادة المطلقة".
وعلى مستوى سياق أزمة أوتاوا – الرياض، وتداعياتها المحتملة، يمكن القول إن الرئيس ترامب قد يكون أبرز المستفيدين منها، في إطار "خصومته"، مع رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، وهو ما شجّع السعودية على افتعال هذه الأزمة معه. وإدارة ترامب هي أفضل صديق للمستبدّين العرب، كما كتبت مستشارة الأمن القومي السابقة، كوندوليزا رايس، في صحيفة نيويورك تايمز، وهي تتسامح مع الانتهاكات السعودية، بدلاً من دعم أوتاوا.
من ناحية أخرى، تتلقى الرياض دعم مؤسسات مثل مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية في موقفها من كندا، وتعيد تجديد أطروحات "رفض التدخل في الشؤون الداخلية"، وأن "أي إصلاحٍ يأتي بإرادة داخلية عربية، وليس استجابةً لضغط خارجي"، ما يؤكّد أن كثيرين من صنّاع القرار العربي لم يدركوا بعد أن الحدود بين ما هو "داخلي" و"خارجي" لم تعد قائمة كما كانت.
مفهومٌ أن تصطفّ موسكو إلى جانب الرياض، ما دامت كلتاهما تتصرّفان ضد حرية الشعوب، وتقفان في الخندق نفسه، ضمن "أعداء الثورات العربية"، وتنتهجان سياساتٍ جوهرُها إحباط هذه الثورات، حفاظاً على مصالحهما في الشرق الأوسط.
وفي الضفة الأخرى، تبرز مطالبة المسؤولة عن العلاقات الخارجية والدفاع في الاتحاد 
الأوروبي، فيديريكا موغيريني، بتوضيحاتٍ بشأن "الناشطات المعتقلات" في السعودية، واتصالها بجاستن ترودو من أجل التضامن والتشديد على حقوق الإنسان في العلاقات الدولية. وربما تؤدي هذه الجهود إلى تخفيض حدّة الأزمة السعودية الكندية، وبداية وساطة أوروبية لحلحلتها.
وحتى لو بدا أن السعودية ستكسب آنيا من تصعيدها ضد كندا، فإن قدرتها في التأثير على المشهدين، العربي والإقليمي، تتراجع بشكل مضطرد؛ فقد لا تكون رهانات بن سلمان على الرئيس ترامب صحيحة. وربما تتشابه رهاناته في الأزمة مع كندا، مع ما حدث في أزمة حصار قطر؛ بمعنى أن تستنفد الرياض جهدها في عملية "استعراض عضلاتٍ" فاشلة، تكشف ضعفها الحقيقي لاحقاً، على الرغم من تصريحاتها "العنترية".
يبقى أخيراً القول إن المستفيد من افتعال هذه الأزمة لن يكون الرياض التي اختارت توقيت ما قبل "الحج"، لكي تثير قلق حجّاج كندا وغيرهم؛ فالسعودية في النهاية "نمر من ورق"، وإذا كان صحيحاً أن استهداف ترامب كلا من إيران وتركيا، على الأقل اقتصادياً في هذه المرحلة، قد يؤدي إلى إحداث أزماتٍ عديدةٍ لهما، وربما يؤدي إلى "تراجع نسبي" في وزنهما الإقليمي لمصلحة تقوية إسرائيل، فالمؤكد أن الرياض ستبوء بخسارةٍ أكبر من خسارة أنقرة وطهران.
باختصار، تخوض الرياض "صراعاً عبثياً" مع كندا، وهي مضطرّة إلى التراجع، عاجلاً أم آجلاً.
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل