ضحكة كشجرة عيد ميلاد

ضحكة كشجرة عيد ميلاد

01 أكتوبر 2018

خيري منصور.. ضحكة تضيء ليل السهر

+ الخط -
يوماً بعد يوم، أتمثّل قصيدة محمود درويش المبكّرة (نسبياً):
أصدقائي، لا تموتوا مثلما كنتم تموتونَ
رجاءً، لا تموتوا، انتظروني سنةً أُخرى
سنهْ
سنةً أُخرى فقط.
رُبَّما أنُهي حديثاً قد بَدَأْ
ورحيلاً قد بدأْ
ربما نستبدل الأفكارَ بالمشي على الشارعِ
أحراراً من الساعة والرايات،
هل خُنَّا أحدْ
لنسمِّي كُلّ أرضِ، خارجَ الجرح، زَبَدْ؟
كان درويش شاباً، وكان يمكنه أن يطلب هذا الطلب المستحيل: المزيد من الوقت: سنة أخرى. ليس كثيراً. هذا ما أطلبه اليوم.
فلا أكاد "أتكيّف" مع موت صديق عزيز، حتى يفاجئني موت صديق أعزّ. الموت هو الفعل الأكثر دأباً في الحياة العربية، بل ليس هناك فعل عربي آخر سواه. ولكنه ليس الموت الذي "يغيظ العدا"! قليل، اليوم، الموت على يد العدا، أو في مواجهة العدا. فهؤلاء لم نعد نعرفهم.
هذا العام السيَّاف حصد أصدقاء ورفاق طريق كثرا. الصدمات تتالت وازدادت غرابةً وبعداً عن التوقع. وهذا الأخير مجرّد تخمين، وربما، رغبة شخصية لا علاقة لها بالطريقة التي يعمل بها الموت. آخر هذه الصدمات رحيل خيري منصور.
أشعر، على الرغم من يقيني أن خيري لم يعد، بجسده، بيننا، بأن خبر رحليه ليس سوى مزحة. أو خطأ لا نعتم نرى تصحيحا له. هناك خطأ ما. هذا ما أشعر به. ربما لأن صوته، المحشرج، المستبطن سخريةً حتى في أكثر المواضيع جدّية، لا يزال يرنّ في أذني مذ تحدّثنا قبل أشهر، في عمّان. لكن من كان في وسعه أن يعرف أنها ستكون آخر مرّة نتحدّث فيها، آخر فرصة للقاء؟ خصوصاً مع شخص كخيري، المتفجّر بالحياة والمواعيد.
***
الذين يعرفون اسم خيري منصور يعرفون الكاتب والشاعر، وليس الشخص. وهنا أقول إن قلة من الكتاب والشعراء تمثل شخصياتهم امتدادا لكتابتهم. لا أعرف كثيرين لديهم هذه الخاصية. كان عند محمود درويش هذا التشابه، ولم تكن مصادفةً أن يكون خيري منصور من بين قلةٍ مختارةٍ على علاقة شخصية به، ومن بين قلة تزوره في بيته.
يمكن لمن يعرف خيري منصور أن يقول إنه ينقل اقتباساته، أو شواهده، من كتابٍ مفتوح أمامه. أنا شخصيا سمعت هذا القول. لكن تكفي جلسةٌ واحدةٌ مع خيري لتتأكّد أنك أمام مثقف موسوعي، بقدر ما يمكن لهذا الوصف أن يتحقق في زمننا، وأن قدرته على بلورة الأفكار وتسلسلها ودعم حديثه بالحجج والاستشهادات المسهبة، أحياناً، لا تختلف عما تقرأه في مقالاته المنضبطة في موضوعها ولغتها، بحيث لا تذهب مذاهب شتى.
من بين ممارساته الكتابية المتعدّدة، كان خيري، أولاً وأخيراً، شاعراً. لكنه لم يجرجر الشعر وراءه في حقولٍ كتابيةٍ لا يشكل "الشعري" فيها إضافة بل إعاقة. وبهذا المعنى، تنطبق عليه القولة التي سمعتها منه بهذا الخصوص: أن لا يكون المقال (أو النثر عموماً) استثمارا لـ "الفائض الشعري"، فللنثر لغته وله عدّته الكتابية التي تختلف عن الشعر. هذا جنسٌ وذاك جنس آخر. وكان خيري وفيّا لفكرته هذه. فلا تتعثر في مقالاته وكتاباته الفكرية (بل والسيرية) على ما فشل الشاعر في تحقيقه في القصيدة.
وداعاً خيري منصور.. ستظل ضحكتك التي تضيء ليل السهر كشجرة عيد ميلادٍ حيةٍ في ذاكرتي، وربما أمكنها مساعدتي على الخروج من النفق الذي زُجِجْتُ فيه بلا سابق إنذار.

دلالات

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن